إنها الفتنة التي تحاول أن تضرب الوطن في مقتل بزرع الفرقة بين أبنائه مسلمين ومسيحيين، أقول ذلك ولدي إحساس بأن حادث ماسبيرو سوف يكون آخر الأحداث الطائفية المفجعة في بلادنا.
ذلك أن حجم الألم كان كبيرا والشعور به عميقا كما أنني أظن أن الرسالة قد وصلت الي قلب كل مصري وعقله في ذات الوقت بحيث أدرك الجميع أننا نعيش في قارب واحد وسط أمواج عاتية فإذا اختلفنا داخله انقلب القارب بمن فيه ولن تستثني نار الفتنة جماعة أو طائفة فالكل أمامها سواء!
وقد أمضيت الأعوام الأربعين الماضية معنيا بقضايا المسيحيين في الشرق الأوسط مع تركيز طبيعي علي الأقباط أكبر تجمع سكاني مسيحي عربي علي أرض مصر الطيبة ملتقي الثقافات وبوتقة الحضارات وموئل الديانات فإني أسجل اليوم خلاصة لبعض ما استقر في ضميري. الوطني والأكاديمي معا. وأوجز ذلك في النقاط التالية:
أولا: إن تعبير قبطي له دلالة ثقافية وتاريخية قبل أن تكون دلالة دينية فهو يرتبط بحقبة تشير الي العصر المسيحي عندما كان المصريون في أغلبهم يدينون بالمسيحية الأولي باستثناء أقلية يهودية في غرب الدلتا وبعض مناطق ساحل المتوسط، وبذلك فإن علي كل مصري ومصرية أن يدرك جيدا أنه من نتاج الحقبة المسيحية أيضا ما دامت جذوره مصرية، ولنتذكر أن جيش الفتح الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص كان قوامه أربعة آلاف جندي بينما كان عدد سكان مصر آنذاك يزيد علي ستة ملايين نسمة حسب أدق المصادر التاريخية وهو ما يعني أننا جميعا خرجنا من تلك الحقبة بأصول مصرية متساوية وبقي بعضنا علي مسيحيته فارتبط اسمه دائما بتلك الحقبة من تاريخنا وصرنا نسميهم الأقباط بينما الأدق هو المسيحيون المصريون، وظل باب الإسلام مفتوحا للتحول نحو الدين الجديد علي امتداد قرنين كاملين حتي تمكنت الدولة الفاطمية من سدة الحكم فدخل الأغلب الأعم من المصريين في الإسلام الحنيف وأصبحت مصر دولة ذات أغلبية مسلمة ثم اكتملت عروبتها حينما بدأت الصلوات في الكنيسة الأرثوذكسية المصرية تتم في مجملها باللغة العربية وهكذا فإن النشأة الحقيقية للاختلاف الديني في مصر بين مسلمين ومسيحيين لم تخرج بهما إطلاقا عن حدود النسيج السكاني الواحد ولذلك فإنه يتعين علي كل مصري مسلم أن يدرك أن من نسميهم الأقباط إنما يمثلون أصوله البشرية والوطنية علي نحو لايقبل الشك أو التشكيك بأي حال.
ثانيا: لاتوجد دماء نقية لشعب معين أو جنس بذاته ذلك أنه لا يوجد مختبر علمي لتحليل الدماء النقية وتحديد أنواع الأصول البشرية فتلك نظرة نازية هتلرية دعت الي تمييز الجنس الآري دون سواه، لذلك فإن الخلط المتعمد بين العناصر العربية الوافدة الي مصر مع دخول الإسلام والأغلبية المسلمة في مصر بعد ذلك هو عبث تاريخي وتزييف للحقيقة لأن الوافدين كانوا بالآلاف وقد ذابوا في أتون الأصول المصرية الثابتة وهي بالملايين! لذلك لا يمكننا التفرقة بين مسلم ومسيحي في مصر بسبب دعاوي عرقية أو دينية تمس وطنية طرف دون آخر أو تعطي لأحدهما ميزة تاريخية علي سواه.
ثالثا: إن حقيقة التعايش المشترك بين المسلمين والمسيحيين بل اليهود ايضا هي رصيد تاريخي لمصر التي لا تزال عاصمتها تضم ستة معابد يهودية لم يمسسها سوء فما بالنا بكنائس (من هم أقرب مودة) وهم أيضا (الذين لايستكبرون) لذلك فإن بناء الكنائس الي جانب المساجد هو دليل علي رسوخ الشعور الدفين بالأخوة الحقيقية والاندماج الكامل الذي لم يتأثر بحروب الفرنجة (المسماة خطأ الحروب الصليبية) ولم يتأثر أيضا بالفيلق القبطي الذي شكله الجنرال يعقوب أثناء الحملة الفرنسية! ولا محاولات كرومر و جورست أثناء الاحتلال البريطاني فقد ظل النسيج المصري متماسكا عبر القرون لا تنال منه العواصف العاتية ولاتمزقه الأحداث الطارئة أو تؤثر فيه الظروف العارضة.
رابعا: إنني مشفق علي رئيس مصر القادم سواء جاء عسكريا أو ليبراليا أو سلفيا أو من جماعة الإخوان المسلمين أو غيرها إنني أشفق عليه إذا لم يدرك عن يقين أن الشأن القبطي أمانة في عنقه سوف يسأل عنها أمام الله والوطن، فالمواطنة الحقيقية تلغي الفروق بين المختلفين عقيدة وطبقة وجنسا، فهذا مسيحي وذلك مسلم، وهذا غني وذاك فقير، وهذا رجل وتلك امرأة ولكنهم جميعا متساوون في المراكز القانونية والحقوق السياسية، إنها مسئولية مشتركة نحملها جميعا في ظرف صعب ووقت عصيب لذلك فإن التدقيق في من يقود السفينة لابد أن يضع في اعتباره ضرورة الإيمان المطلق بالتعايش المشترك بين المصريين جميعا بلا تفرقة أو استثناء، بلا تمييز أو إقصاء، بلا تهميش أو استبعاد.
خامسا: يجب أن يعي المصريون جميعا أنه لاتوجد ضغينة تاريخية متجذرة تدعو الي الفتنة الطائفية التي نطالب بتغليظ العقوبة علي كل من يوقظها أو يشارك فيها أو يساعد عليها مدركين أن قانون تنظيم دور العبادة سوف ينتزع خمسين بالمائة علي الأقل من أسباب التوتر وعوامل الاحتقان، فإذا اتجهنا بعد ذلك الي حسم قضايا التحول الديني أو الزواج المشترك فإننا نكون قد اقتحمنا النصف الثاني من أسباب الفتنة وعوامل الشقاق، ولننظر مثلا الي الدولة الهندية الديمقراطية. والتي عشت فيها أربع سنوات. لنجد أن المشكلات الطائفية تأتي لديهم نتيجة الإحساس بأن الدولة المغولية الإسلامية التي حكمت شبه القارة الهندية هي التي تركت بصماتها القوية بآثارها الباقية مزاحمة بذلك الوجود الهندوكي الأصلي علي نحو أدي الي جريمة التقسيم عام 1947، بينما لايوجد لدينا في مصر ما يشبه ذلك أو يتقاطع معه!
.. إنني أقول مطمئنا وبيقين غامض يصدر من أعماقي أن حادث ماسبيرو الأليم سوف يكون خاتمة لسلسلة مشينة من الجرائم الطائفية محطاتها في الخانكة والزاوية الحمراء و الاسكندرية و الكشح و نجع حمادي و العمرانية و إطفيح و إمبابة وغيرها من العلامات السوداء في تاريخنا الوطني، إنني أزعم أن صدمة ماسبيرو سوف تؤدي الي الإفاقة الكاملة والخروج من عبث الإجرام الطائفي والتصرفات غير المسئولة التي تصاحبه، وأقول هنا لا للمسكنات، ولا للحلول الترقيعية، ولا للمجالس العرفية، فالقانون وحده هو سيد الموقف، وأهمس في أذن السادة المحافظين خصوصا في صعيد مصر إنكم تمثلون مصر الوطن لكل أبنائه دون تفرقة أو تمييز وقد جاء وقت الحلول الجذرية لبتر سرطان الفتنة الطائفية واجتثاث جذورها بالوعي الحقيقي والتدين الصحيح الي جانب احترام هيبة الدولة وحياد مؤسساتها الأمنية والقضائية حتي لا تطل الفتنة بوجهها الكئيب مرة أخري. لعن الله من يوقظها أو يدعو لها أو يبشر أو يساعد عليها!
جريدة الاهرام
31 اكتوبر 2011
http://www.ahram.org.eg/Archive/703/2011/10/31/4/110225.aspx