سرى في انحاء مصر شعور، بالقلق الذي يطرح عشرات التساؤلات لمجرد ان الشواهد الأولي للانتخابات البرلمانية قد أعطت مؤشرا بفوز حزب الحرية والعدالة الذي ينطلق من جماعة الاخوان المسلمين، وكذلك حزب النور السلفي وغيرهما من رموز التيارات الدينية في مصر.
وكان محور الحديث دائما هل سوف تصبح مصر دولة محكومة بتيار ديني؟ وهل اخفقت القوي الليبرالية بالضربة القاضية في الانتخابات الأخيرة؟ خصوصا ان الانتخابات قد جرت في ظل إقبال شعبي غير مسبوق، كما ان احترام نتائج الصندوق هو جوهر فلسفة العملية الانتخابية في كل زمان ومكان بدءا من مفردات البيعة والشوري وصولا إلي النمط الديمقراطي الحديث، ولقد تلقيت شخصيا عشرات المكالمات الهاتفية وتعرضت لأسئلة مباشرة كثيرة حول المستقبل وملامحه، ولم يقف الأمر عند هذا الحد اذ جرت مبالغات كثيرة للترويع والتخويف، خصوصا في اوساط اشقاء الوطن من مسيحيي مصر حيث رددت النكتة انهم يهرولون قائلين، الحقي يا ام نجيب سوف نلبس جلاليب!
وتبدو الاشارة هنا إلي اسم المهندس نجيب ساويرس زعيم حزب المصريين الأحرار الذي يقود الكتلة الليبرالية في الانتخابات الأخيرة، وبغض النظر عن جدية ما يقال من هزله وواقعيته من مبالغته إلا ان لنا ان نرصد الملاحظات التالية:
أولا: ان المصريين والعرب والعالم الإسلامي تعودوا علي جماعة الاخوان المسلمين باعتبارها فصيلا سياسيا موجودا علي المسرح منذ أكثر من ثمانية عقود، ولقد تعايشت معها الشعوب، وان اصطدمت بها النظم، ولكن جماعة الاخوان المسلمين تبقي في النهاية تنظيما سياسيا اكثر منه دينيا، كما انها تمتلك من الخبرات المتراكمة رصيدا هائلا من التعامل المباشر مع القوي السياسية المختلفة داخليا وخارجيا، ويكفي ان نتذكر ان العاهل السعودي الأول الملك عبدالعزيز الكبير قد استقبل الامام الشهيد مؤسس الجماعة في احد مواسم الحج، وفي ذلك اعتراف مبكر بدورها، كما ان الحوار الذي جري بين النحاس باشا زعيم الامة والامام الشهيد حول الدور الدعوي للجماعة والطموحات السياسية لها، اقول ان هذين النموذجين يشكلان مؤشرا واضحا لمكانة الجماعة في الداخل والخارج مرورا بعلاقتها المتباينة بأسماء مثل احمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي وابراهيم عبدالهادي، وصولا إلي الرؤساء محمد نجيب وجمال عبدالناصر وانور السادات وحسني مبارك فاذا كانت نتائج المرحلة الأولي من الانتخابات تبدو مبررا لقلق كثير من المصريين ـ مسلمين ومسيحيين
ـ لكنه في ظني قلق وقتي لانه قد جري استخدام الجماعة لسنوات طويلة كفزاعة لتبرير سطوة النظم وسلطوية الحكام وبرغم انني اختلف مع فكر الجماعة فإنني اعترف بالمستوي التعليمي لقياداتها، ويكفي ان نتأمل عدد حملة درجة الدكتوراه من بين اعضاء مكتب الارشاد، كما ان رئيس حزب الحرية والعدالة قد تخرج في واحدة من الجامعات المرموقة في الولايات المتحدة الأمريكية.
ثانيا: ان ظهور السلفيين علي المسرح السياسي قد أصبح مصدرا للدهشة والقلق بل والفزع ايضا في قطاعات كثيرة من المجتمع المصري المعروف باعتداله ووسطيته برغم تدينه الذي اعترف به الغزاة بدءا من الاسكندر الأكبر وصولا إلي نابليون بونابرت اللذين حاولا تملق ديانات المصريين عبر العصور، ولكن المشكلة تكمن في ان السلفيين قد ظهروا فجأة، وكأنما انفتح قمقم ثورة يناير 2011 لتخرج منه أفواجهم التي لم تكن معروفة من قبل.. نعم كنا نسمع عن جماعة انصار السنة المحمدية وعن الجمعية الشرعية وغيرهما من المؤسسات الدعوية، ولكننا لم نكن ندرك ان القوي السلفية بهذا الحجم من ناحية وبهذا النمط من التفكير في ناحية اخري، فضلا عن انهم يمثلون توجها متشددا ينشر القلق في ربوع مصر ويصيب الاسرة العادية بحالة من الترقب التي غذتها سلسلة التصريحات غير المسئولة من بعض القيادات السلفية غير المسيسة، والتي لاتدرك اسلوب التعامل مع الساحتين الداخلية والخارجية فأصابتهما معا بقدر من الإحباط والخوف من المستقبل، خصوصا عندما قاموا بتغطية تمثال اثناء احد مؤتمراتهم في مدينة الاسكندرية.
ثالثا: لعل هذه المواقف المتشددة والتصريحات المتشنجة هي التي أدت إلي شيوع حالة القلق المشروع في أوساط الشعب المصري، وكادت تدفع بالكثيرين نحو الحصول علي تأشيرات كندا والولايات المتحدة الأمريكية واستراليا في مشهد حزين يبدو وكأنه تفريغ للوطن المصري من افضل ابنائه، واذا كنت اعيب علي اشقائنا السلفيين نقص خبراتهم السياسية إلا انني أعترف هنا ان التعميم ظالم اذ ان لي صديقا يترأس احد الاحزاب السلفية وقد كان قبل ذلك واحدا من لواءات الشرطة المرموقين فضلا عن تميزه كمؤلف موسيقي معترف به عالميا حتي ان ملكة السويد قد اعتبرته رجل العام في احتفال تكريم له منذ عدة سنوات ومع ذلك فإنني أري ان قطاعا كبيرا من السلفيين يمثل مجموعات جديدة علي المسرح السياسي من خلفيات مختلفة ومشارب متعددة ومستويات فكرية وتعليمية متفاوتة تجمعهم اللحية في الظاهر مع الاقتداء بالسلف الصالح في الباطن.
رابعا: إنني أتوجه إلي قيادات حزب الحرية والعدالة ووراءهم الجماعات السلفية التي تقتحم الحياة السياسية في مصر لأول مرة، مطالبا اياهم بخطاب معتدل يقترن بتلك الافكار الهادئة التي قدمها الصديق الدكتور محمد مرسي في احد البرامج التليفزيونية، وليس أبدا تلك المشاهد المقلقة التي تابعها المصريون لبعض القيادات السلفية من ابناء وطننا وهم يتحدثون في الفروع ويتركون الأصول ويختزلون الدعوة الإسلامية كلها في بعض المواقف الحادة والآراء الصارمة بطريقة تبدو بعيدة عن روح العصر، وكأنهم يتعمدون خلط المواقف وتداخل الأوراق علي نحو يؤدي إلي سوء استقبال الناس لها.
خامسا: إنني ممن يظنون ان الخبرة السياسية هي أشد ما يعوز التيار السلفي حاليا ولابأس لو أنهم استعانوا بخبرات جماعة الاخوان المسلمين خصوصا انني أقول دائما ان الفكر السياسي للجماعة يشكل مايزيد علي ثمانين في المائة من جوهر فلسفتها والباقي يمثل الإطار الديني لها، بينما السلفيون يتصرفون بثمانين في المائة انطلاقا من فهمهم للدين الحنيف، ويكتفون بالنسبة الضئيلة الباقية التي تمثل خبراتهم السياسية القصيرة، ويجب ألا ننسي بالمناسبة ان الامام الشهيد حسن البنا قد أسس الجماعة بعد سقوط الخلافة العثمانية بسنوات قليلة، وهو ما يعكس الدفاع السياسي الكامن وراء ذلك الحدث الكبير.
جريدة الاهرام
12 ديسمبر 2011
http://www.ahram.org.eg/Archive/745/2011/12/12/4/118483.aspx