إن شباب الوطن الذي احتشد في ميدان التحرير يوم الخامس والعشرين من يناير عام 2011 المتمثل في عشرات الآلاف من أصحاب القلوب الخضراء والنفوس النظيفة والوجدان الوطني التلقائي ومعهم.
الآلاف من المنتمين للحركات الاحتجاجية الذين وفدوا إلي الميدان الكبير ليرسلوا إشارة البدء في ثورة التغيير بعد سنوات من التوتر السياسي والظلم الاجتماعي والاحتقان الطائفي والشعور العام بالتهميش مع استحكام الضغوط الناجمة عن تزاوج السلطة مع الثروة وتحالف الاستبداد مع الفساد, أقول إن هذا الشباب النقي الذي خرج من أجل غايات وطنية شريفة لم يكن يتوقع أن تتحول دماء رفاقه الشهداء أو عاهات المناضلين منهم إلي مواقع متميزة لبعض القوي السياسية أو مبررا للاستعراض الفج علي الساحة السياسية لأن الثورة أكبر من ذلك كما أن مصر في حاجة إلي برامج عمل حقيقية وجهود مخلصة تقوم علي إنكار الذات وتكف عن الادعاء بغير سند, ولعلي أشير هنا بشكل متميز إلي حركة احتجاجية رائدة هي حركة كفاية التي بدأت قبل غيرها وفي أجواء من التضييق والكبت بل والقهر ولازالت تصك مسامعي بعض هتافات الحركة في حي الزيتون أمام كنيسة العذراء وهم يرددون (يا أم النور.. متي الظلم يغور), كما أنني أكون متجردا إذا قلت إن شخصية دولية كبيرة بحجم الدكتور محمد البرادعي تمثل بالتأكيد حالة الأبوة الشرعية للثورة المصرية, فقد عبر عنها بشكل واضح ومؤثر حتي قبل أن يترك موقعه في العاصمة النمساوية عندما كانت أطروحاته أقرب إلي المغامرة غير المحسوبة في ظل أجواء مظلمة وكنا نتحدث وقتها. بغير إدراك كامل. عن قامته الدولية دون التركيز علي قدرته الثورية, ولعلي أطرح في النقاط التالية الدوافع التي تحدوني إلي الحديث اليوم عن ثقافة الفوضي:
أولا: إن تاريخ الثورات المعاصرة يوضح بجلاء أنها عملية تغيير شاملة إلي الأفضل يقوم بها الشرفاء ويرصدها الجبناء ويسرقها الخبثاء, أقول ذلك وعيني علي المشهد المصري العام الذي انتقل من حشد التحرير الذي اتسم في بدايته بالبراءة والوطنية إلي ما طرأ عليه من مجموعات لها أجندات سياسية ومشروعات فكرية بحيث سمحت لها ظروف تلك الثورة بأن تحصد من إنجازات حركة الجماهير ودماء الشهداء وعوائد الثورة وعمليات الإحلال والابدال التي تجري بالضرورة في عقب الثورات.
ثانيا: لقد تمكنت قوي سياسية ذات خبرة طويلة في الشارع المصري من تحويل الأنظار إليها وتحقيق أكبر المكاسب منها, إن هذه القوي تحاول أن تحقق في ظرف استثنائي ما حرمت منه في الظروف الطبيعية بحيث أصبحنا أمام مشهد مختلف بمفردات سياسية جديدة ومشروعات مكتومة لا تفصح عن نفسها في المدي القصير بل تتأرجح فيما تعلن عنه وفقا لمعطيات الرأي العام في كل فترة, إننا أمام عملية تعبئة سياسية استطاعت أن تتجاوز الظرف الراهن من أجل تكوين رؤية جزئية لحزب أو لجماعة دون وضع في الاعتبار لما عانت منه مصر في العقود الأخيرة والحالة التي آلت إليها الأوضاع في عقب الثورة الشعبية التي أطاحت بالنظام السابق ولكنها لم تتمكن حتي الآن من وضع دعائم النظام الوطني الجديد القادر علي مواجهة الاستبداد ومحاربة الفساد وبناء دولة عصرية حديثة بكل المعايير.
ثالثا: إن المتأمل للمشهد السياسي المصري المعاصر سوف يفزع حين يري أولئك الذين يحاولون بناء مجدهم الشخصي علي حساب الوطن ويتطلعون إلي المنصب الكبير تتويجا لحياتهم الوظيفية أو السياسية حتي أصبحنا أمام موقف عبثي يؤكد أن بعض مغتصبي المناصب هم في كل عهد يغيرون ثيابهم ويلبسون قبعة العهد الجديد يدغدغون مشاعر الجماهير ويلعبون علي أوتار موسيقي الفقراء, إن أصواتهم عالية وشعاراتهم زاعقة ولكن منهم من لا يزيدون عن نمور من ورق!
رابعا: لا يختلف اثنان علي أن الأمن واحد من أولويات البشر ولا تستقيم حياة الشعوب ولا استقرار المجتمعات بدون كفالته واستتبابه ونحن اذ ندعو إلي إعطاء جهاز الشرطة أولوية سريعة حتي يلملم جراحه ويستعيد عافيته فإننا ندرك أن ذلك هو الإسهام الذي لا يختلف عليه اثنان من أجل استعادة سلامة الوطن وتحقيق آماله وأمانيه خصوصا أن تاريخ الشرطة المصرية حافل بالايجابيات علي الرغم من بعض العثرات التي لم يبرأ منها جهاز مثيل في عالمنا المعاصر.
خامسا: مضي علي الثورة المصرية عدة شهور وعلي الرغم من أنها أسقطت نظاما عتيا فإنها لم تتمكن حتي الآن من الوقوف علي الطريق الصحيح بسبب الانصراف إلي الجدل العقيم والسفسطة المتواصلة والتنظير بلا جدوي, إننا مطالبون في هذه المرحلة بالالتفاف حول غايات محددة وأفكار بسيطة تدور حول مشروعي الديمقراطية والتنمية وتقف حائط صد أمام العدوين الاستبداد والفساد وتسعي للإصلاح الحقيقي وفقا لبرنامج زمني تتوافق حوله الجماعة الوطنية وترتفع به فوق الأحزاب والجماعات والقوي السياسية المختلفة, إن الوقت يمضي ومصر ليست حقلا للتجارب ولم تكن أبدا بلدا صغيرا ولا وطنا مستباحا وليدرك الجميع أن في ضمير هذا الشعب مخزونا حضاريا قادرا علي أن يقذف بالصغار بعيدا وأن يدعم الثورة الشعبية الحقيقية وشبابها الواعد.
.. هذه قراءة عامة في ملف الدولة المصرية الممتدة عبر آلاف السنين, إنها قراءة تؤكد أن الفوضي ليست من صفات مصر تلك الدولة النهرية المركزية التي شهدت طفولة التاريخ ولا يمكن لها أبدا أن تدخل في دوامة عنف غير محسوب أو فوضي دائمة لأن ثقافة شعبها أقرب إلي فكرة الدولة منها إلي فكرة المجتمعات العشوائية أو الجماعات البشرية غير المستقرة, فمصر القديمة قد عرفت القانون قبل غيرها ومارست التشريع في وقت لم يكن فيه بلد واحد في المنطقة يحتكم إلي التشريعات الحديثة ويعرف المجموعة المدنية أو يأخذ عن القانونين الفرنسي والبلجيكي أو غيرهما مواد دستورية يحتكم إليها, فضلا عن الشريعة الاسلامية المعروفة بثرائها ونقائها وعدالتها.. إنني أقول صراحة إن المشهد المصري الراهن لا يتوافق مع ثورة أطاحت بالاستبداد ولا شباب طاهر قاوم الفساد ولا يمكن لبلد في حجم مصر ووزنها ومكانها ومكانتها وتاريخها وحضارتها إلا أن يكون متجها نحو دولة عصرية بمعني الكلمة يتطور فيها التعليم ويستقر لديها البحث العلمي وترتفع فوقها رايات الأمن والأمان.
جريدة الأهرام
26 يوليو 2011
http://www.ahram.org.eg/Archive/605/2011/7/26/4/91620.aspx