يبدو العنوان شائكًا، ولكن الالتزام بالموضوعية سيجعله لائقًا، فلقد عملت فى حياتى الدبلوماسية مع سفراء عسكريين ومدنيين على السواء، ولابد أن أعترف أننى قد استرحت فى التعامل مع السفراء العسكريين لأنهم أكثر وضوحًا وأقل التواءً ويواجهون الآخرين بما فى قلوبهم دون إخفاءٍ أو مواربة.
لقد سعدت بالعمل فى أول حياتى مع السفير الراحل «جمال منصور» فى إدارة غرب أوروبا بوزارة الخارجية ثم بالعمل مع القنصل العام «محب السمرة» ثم السفير الراحل «جمال رفعت» وهم من أصولٍ عسكرية حتى بلغت سعادتى قمتها فى التعامل مع السفير الراحل والقائد العسكرى المتميز «سعد الشاذلي» وقد أدهشنى أنه أعطانى امتيازًا فى التقدير السرى السنوى فترة عملى معه خصوصًا وأننى كنت مسؤول الشفرة السرية (نسميها فى السلك الدبلوماسى المصرى «سكرتير الرمز») وهو ما جعلنى لصيقًا به فى تعامل يومى مستمر وقد كان الرجل عائدًا من رئاسة أركان حرب الجيش المصرى المنتصر عام 1973 منبوذَا من الرئيس الراحل «السادات» ورفاقه محملين إياه ـ ظلمًا ـ مسؤولية حدوث «ثغرة الدفرسوار»، ولقد تعلمت من ذلك القائد العسكرى الكثير فهو شديد الانضباط شديد الدقة شديد الوطنية كما أنه كان من أفضل من استمعت إليهم من سفراء «مصر» مدنيين وعسكريين عندما يتحدث بالإنجليزية، ولقد ألقى محاضرة رائعة عن «مستقبل قناة السويس» فى قاعة المحاضرات بمجلس العموم البريطانى كما اكتشف مبكرًا ـ وبحسٍ سياسى متوهج ـ أهمية وزيرة التعليم «مارجريت تاتشر» ودعاها إلى عشاء كبير فى بيته وكأنما كان يقرأ مستقبلها الذى تحقق بعد ذلك بشهور قليلة لكى تصبح تلك «المرأة الحديدية» زعيمة حزب «المحافظين» ثم رئيسة الوزراء وعندما استشعر «سعد الشاذلي» رياح الفتنة الطائفية التى بدأت تهب على الوطن المصرى مع مطلع سبعينيات القرن الماضى دعا إلى لقاء كبير فى السفارة بين أسقف «كانتبري» الرجل الأول فى الكنيسة البريطانية وعددٍ من علماء «الأزهر الشريف» ورجال الدين الإسلامى فى «لندن» وكان اللقاء مهرجانًا رائعًا للفهم المتبادل وطرح القواسم المشتركة بين المسيحية والإسلام، واستضاف الرجل بوعيه وذكائه »يوم إفريقيا« (الخامس والعشرين من مايو) فى مبنى السفارة لأول مرة فى تاريخ البعثات الأفريقية فى «لندن» ورأيت الدولة البريطانية تسعى إلى حفل الاستقبال فى السفارة المصرية بدءًا من رئيس الوزراء «جيمس كالاهان» ووزير خارجيته وصولاً إلى سفراء العالم أجمع فى العاصمة البريطانية، لقد كان ذلك الرجل ـ الذى ودعته «مصر» فى غضون ثورتها الشعبية وكأنما أبت روحه أن تبرح جسده قبل أن تبرح دولة الفساد والاستبداد جسد «مصر» العظيمة ـ صاحب أفكار متجددة وآراء غير تقليدية تعتز به العسكرية المصرية والدبلوماسية الوطنية أيضًا منذ أن قاد قوات الأمم المتحدة فى «الكونغو» إلى أن أصبح ملحقًا عسكريًا فى «لندن» ثم تحول إلى رمزٍ عسكرى أسطورى فى ذاكرة الوطن، والخارجية المصرية ـ بالمناسبة ـ تدين قبل ذلك لعسكرى آخر متميز بجميع المقاييس هو اللواء «محمد حافظ إسماعيل» الذى نظم الخارجية الحديثة ووزع الاختصاصات على الإدارات وحدد فترات الوجود فى البعثات بالخارج وبديوان الوزارة وقنن امتحانات القبول التحريرى والشفوى ثم أصبح سفيرًا رائعًا لـ «مصر» فى «بريطانيا» و«فرنسا»، كما رشحه الرئيس الراحل «أنو السادات» سفيرًا في«الهند» قبل أن يغير الرئيس الحركة الدبلوماسية وينقله إلى «باريس» ثم يستدعيه رئيسًا لديوان رئيس الجمهورية ومستشارًا للأمن القومي، ولقد كان ذلك الرجل شخصية فذة فى علمه وأمانته وخلقه ووطنيته كما كان شامخًا يعبر عن الكبرياء المصرية والعزة القومية منذ أن كان أصغر من حصل على رتبة اللواء فى الجيش المصرى (باستثناء المشير الراحل «عبد الحكيم عامر» طبعًا) ولابد أن أسجل هنا أيضًا انبهارى بثقافة عسكرى آخر هو المشير الراحل «محمد عبد الحليم أبوغزالة» صاحب المجموعة الرائدة من الكتب فى التاريخ الاستراتيجى وشؤون الشرق الأوسط، ولا أنسى لذلك الرجل لقاءً حضرته مع نائب الرئيس الأمريكى فى نهاية ثمانينيات القرن الماضى «جورج بوش الأب» فى ظل رئاسة الرئيس الراحل «رونالد ريجان» وقد حضرت ذلك اللقاء فى «قصر القبة» وبهرنى المشير «أبوغزالة» بثقافته الواسعة وتدفقه الواضح بإنجليزية طليقة وأفكار جديدة طرحها فى ذلك اللقاء وكنت على يقين يومها بأن ذلك الرجل سوف يطاح به فى أقرب فرصة، ولم يخب ظنى فلم يمض عام أو أكثر قليلاً إلا وقد تمت إزاحته من قيادة الجيش تحسبًا من مكانته وتخوفًا من وهم منافسته على الحكم رغم أن ذلك لم يكن فى أجندة ذلك القائد المنضبط، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل جرت عملية تشويه لسمعته بشكل مدبر حتى لا تقوم له قائمة! ولقد أصاب رذاذٌ من تلك العملية الرخيصة كاتب هذه السطور فى ذلك الوقت حيث عدت إلى الخارجية المصرية البيت الذى خرجت منه ولا أمان إلا فيه.
.. هذه خواطر ألحَّت على وأنا أتابع الأداء الوطنى الشريف للمجلس الأعلى للقوات المسلحة وهو يسعى إلى إعادة ترتيب البيت فى ظل ظروفٍ بالغة التعقيد شديدة الحساسية، ولقد كنت دائمًا ولا أزال وسوف أظل من المتحمسين للعسكرية المصرية وتاريخها الطويل فى بناء الدولة العصرية منذ عصر «محمد علي» حتى الآن، ويجب ألا ننسى أن ذلك الجيش العريق هو الذى يحتفل بمرور «مائتى عام» على إنشاء «الكلية الحربية» سابقة على معظم الأكاديميات العسكرية فى الشرق والغرب على السواء، وأتذكر الآن مقولة وزير الدفاع الأمريكى «جيتس» منذ عامين: ( يبقى الجيش المصرى أكبر جيوش الشرق الأوسط وأكثرها مهنية) لذلك فإننى لا أجد غضاضة فى أن أحيى صراحةً «ثقافة العسكر»، وهل ينسى المصريون أن «أحمد عرابي» و«محمد نجيب» و«جمال عبد الناصر» و«أنور السادات» وغيرهم هم أبناء المؤسسة العسكرية المصرية، وتحضرنى الآن علاقة توطدت بينى وبين الفريق أول «محمد فوزي» القائد العام الأسبق للقوات المسلحة المصرية فى السنوات العشر الأخيرة من عمره الحافل فهو القائد الذى جمع شتات القوات المسلحة بعد هزيمة يونيو 1967 عندما استطاع الجيش المصرى الباسل دخول معركة «رأس العش» بعد أقل من أسبوعين من يوم النكسة تأكيداً لجسارة الجندى المصرى «خير أجناد الأرض»، ولقد شاركنا ذلك القائد العسكرى الجاد بعض الندوات الفكرية واللقاءات السياسية، لذلك فإننى أكتب اليوم عن «ثقافة العسكر» بعد الدور الرائع الذى أسهموا به فى حماية ثورة يناير الشعبية والتى تكاد تجعلهم شركاء مباشرين فى إنجاحها ورفع أعلام الوطن فوقها.
جريدة الأهرام
12 يوليو 2011
http://www.ahram.org.eg/Archive/591/2011/7/11/4/88969.aspx