كنت أتساءل دائما لماذا يكتسب الدعاة اسما لامعا وشهرة واسعة خارج المؤسسة الدينية حتي إنني اقترحت منذ سنوات علنا ورسميا بأن يكون الإمام الأكبر منتخبا من هيئة كبار العلماء وأن يكون ممن يتمتعون بمصداقية لدي الشارع الإسلامي والعربي والمصري وليس مجرد مسئول في الحكومة يعينه الرئيس ويوعز له بالاستقالة عندما يشاء، وطرحت أسماء لامعة من أمثال الأئمة الكبار الغزالي والشعرواي والقرضاوي وسيد سابق وكانوا جميعا وقتها أحياء.
ولكن الاقتراح استقبل باستهجان من مؤسسة الرئاسة كما تلقيت بعد برنامج تليفزيوني ذكرت فيه اقتراحي رسالة تحذير وتكدير ولكن بقيت الفكرة تطفو علي ذهني من حين لآخر، وعندما كان لدينا إمام أكبر شديد المراس هو الشيخ جاد الحق علي جاد الحق أعجبني كثيرا حرصه علي استقلال الأزهر ومكانته حتي جاء بعده الإمام الراحل محمد سيد طنطاوي ببساطته الشديدة وتواضعه الزائد ثم قيض الله لهذه المؤسسة الدينية الكبري إماما صوفي القلب شجاع العقل تواكبت مع إمامته الثورة الشعبية المصرية التي اندلعت في الخامس والعشرين من يناير 2011 فتحرر الإمام الأكبر من قيد السلطة وضغوط الحاكم وأظهر أروع ما فيه اعتدالا وسماحة واتساع أفق وشمول رؤية وفتح أبواب الأزهر ـ كما هو العهد به في عصور ازدهاره ـ أمام أهل الديانات السماوية كلها وجمع حوله المفكرين والمثقفين بقيادة رجال الأزهر الشريف وعلمائه الكبار ممن جمعوا بين الثقافتين العربية الإسلامية والأوروبية الغربية فاستقامت لهم النظرة الثاقبة والفهم الأمين لصحيح الإسلام، بل إن الإمام الأكبر استضاف في بعض تلك اللقاءات رموزا من جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين وغيرهم من التيارات الإسلامية القائمة وأضاف إلي ذلك فضلا جديدا باستصدار قرار رئيس مجلس الوزراء الذي نشأ به (بيت العائلة) في شراكة وطنية مع الكنائس المصرية برئاسة دورية من الإمام الأكبر وقداسة البابا وذلك لمواجهة الأحداث الطائفية إذا وقعت والوقاية منها قبل حدوثها، وتبقي لنا علي الأزهر الشريف في ثوبه القشيب الملاحظات التالية:
أولا: لقد كان الأزهر الشريف ـ عبر العصور ـ منطلقا للحركة الوطنية وملاذا للمصريين وموئلا للتيارات المعتدلة والأفكار الوسطية، كما أنه استوعب أيضا مختلف المذاهب والفرق الإسلامية التي تتفق مع صحيح الدين ولا تخرج عن جوهره، وحيث إن صرحا بهذه المكانة لأكثر من ألف عام وبهذه القيمة الكبيرة لدي أصحاب الديانات السماوية فإن الأزهر الشريف يصبح منارا نعتصم به في الملمات ونرجع له في الأزمات ونحتكم إليه في الثورات، ولقد حضرت محاضرة للسيد محمد خاتمي رئيس الجمهورية الإيرانية الإسلامية الأسبق متحدثا في صحن الأزهر فإذا به يقول (إننا نتطلع للأزهر الشريف كي يقود العالم الإسلامي سنته وشيعته)، إنه الأزهر الذي تعامل مع الحملة الفرنسية العسكرية وواجه مناورات نابليون السياسية وأسهم مباشرة في قيام الدولة الحديثة بمصر عندما دعم محمد علي للوصول إلي السلطة وأسهم في ميلاد الاستنارة العصرية من خلال الاحتكاك بالغرب بدءا من رفاعة الطهطاوي، كما كان إسهامه في الفكر والثقافة والأدب والفن أمرا لا يخفي علي أي باحث أمين، كما خطب من فوق منبره عبد الناصر أثناء العدوان الثلاثي 1956 وخرجت من أروقته دائما قوافل الثوار ومواكب الأحرار، فإذا كان ذلك هو الأزهر الشريف فمن الطبيعي الآن أن يستعيد دوره وأن ينطلق بغير حدود.
ثانيا: إن الأزهر الشريف ليس ملكا لمصر وحدها بل هو مؤسسة كبري ينظر إليها العالمان العربي والإسلامي بالتقدير والعرفان، كما أن هناك ما هو أكثر من ذلك فقد درس فيه عشرات من غير المسلمين أيضا وآمنوا بوسطيته وأدركوا اعتداله، إنه أزهر الإمام المجدد محمد عبده والإمام الشجاع محمود شلتوت وأزهر الإمام العصري أحمد الطيب، فإذا كان الإسلام أمميا فإن الأزهر يمضي علي ذات الطريق، حتي إنه قد تولي مشيخته منذ سنوات قليلة إمام تونسي هو الراحل الخضر حسين، كما أن عميد كلية الشريعة فيه كان سوريا، فالأزهر لا يفرق بين أبنائه وخريجيه المنتشرين في أنحاء المعمورة يرفعون راية التوحيد ويدعون إلي التسامح بين الديانات المختلفة والثقافات المتعددة ثالثا: إن رفع غطاء السلطة عن الأزهر الشريف قد أعطاه قوة دفع لم تكن متاحة له من قبل وسمح له أن يتصرف باستقلالية كاملة لا يحول دونها إلا تعاليم الإسلام الحنيف وقواعده الراسخة، وأنا ممن يتطلعون ـ وقد قلت ذلك كثيرا ـ إلي جامعة أزهرية تفتح أبوابها للمسلمين وغير المسلمين فالعلم لا وطن له كما أنه يحترم كل الأديان بغير استثناء، لذلك فإن رحابته وسعة أفقه سوف تتسع دائما لتشمل العرب المسيحيين والمسلمين بغير تفرقة، وأنا أظن أن الفرصة مواتية لكي يفصح الأزهر عن وجهه الحقيقي بأصالته وعظمته وتاريخه المجيد ولاشك أن ثورات الربيع العربي قد أعطت زخما جديدا لكل التيارات الوطنية لكي تصبح مسارا إنسانيا لمنطقة من العالم حرمت طويلا من الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية وعانت دائما من الاستبداد والفساد.
رابعا: إن شيخ الأزهر إذ يستقبل شباب الثورة إنما يدشن مرحلة جديدة من التوافق بين مفهوم الثورة الشعبية والإصلاح الديني في وقت واحد ويؤكد مظاهر الوحدة الوطنية واختلاط الدماء الإسلامية والمسيحية في ساحة الشهداء من أجل التحرير والتنوير معا، وإذا كانت الظروف قد شاءت أن أكون مشاركا بجهد متواضع في وثائق الأزهر وبياناته خلال الشهور الماضية والتي عكف علي صياغتها الأستاذ الجامعي والناقد الأدبي د.صلاح فضل فإننا نثمن أيضا علي العائد الإنساني والوطني من اجتماعات بيت العائلة والتي أشرف بعضويتها أيضا.. تلك قراءة أمينة لتطور جديد طرأ علي أكبر مؤسسة إسلامية في العالم المعاصر حتي إن الأزهر ـ الجامع والجامعة والإمام ـ قد أصبح يستحق المتابعة الشديدة والرصد الكامل وما ينجم عنهما من احترام وتقدير لتلك المؤسسة العريقة التي حافظت علي التراث الإسلامي واحتضنت الشريعة والفقه واختزنت اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن الكريم.
جريدة الاهرام
23 يناير 2012
http://www.ahram.org.eg/Archive/787/2012/1/23/4/126822.aspx