تلقيت اتصالا ذات يوم في النصف الثاني من شهر ديسمبر0102 من نيافة الأنبا موسي أسقف الشباب في الكنيسة الأرثوذكسية ـ المعروف بدماثة الخلق واتساع الأفق ـ يطلب لقاءا معي لنتحدث في الشأن العام بعد أحداث كنيسة العمرانية واتفقنا علي موعد في منزل صديق مشترك هو الأستاذ منير غبور.
ووصلت إلي هناك وبعدها بدقائق دخل الأنبا موسي ومعه مفاجأة هي حضور الأنبا بيشوي أسقف دمياط وتوابعها ـ وهو شخصية بارزة في أركان الكنيسة الأرثوذكسية وصديق قديم لي, كما أنه صاحب المساجلة الشهيرة مع المفكر المصري الصديق د.يوسف زيدان ـ وجلسنا نتحدث طويلا, حيث استعرض الأسقفان الجليلان شجون الأقباط وشئون الكنيسة وأحداث الفتنة الطائفية وقالا إنهما سعيا للقائي من منطلق متابعتي المستمرة لقضية الوحدة الوطنية, واهتمامي الدائم بحكم الدراسة بالشئون القبطية ولصلتي الطويلة بقداسة البابا شنودة الثالث وأنهما يشعران أن البابا في حالة حزن شديد وألم زائد بعد الأحداث الأخيرة وقد استمعت لهما في تلك الأمسية بإنصات شديد لأنني كنت أشعر ومازلت بأن تكرار الأحداث الطائفية بوتيرة متلاحقة أمر يثير القلق, ويدعو إلي التساؤل عن القوي الخفية المحركة لتلك الجرائم التي ترتكب في حق الدين والوطن في وقت واحد, وحاولت ليلتها إجراء عدد من الاتصالات ببعض المسئولين لطرح القضية والتعبير عن الخطر المستمر للوضع القائم, واحتمال استمرار اعتكاف البابا ونحن علي مشارف أعياد الميلاد, ولكن المسئولين الذين اتصلت بهم أجابوني علي نحو شعرت منه أنهم لا يقدرون حجم الموقف ولا يدركون مدي المخاطر المنتظرة, وكان تحليلهم لا يخلو من تسطيح للموقف وتبسيط لنتائجه, لاسيما أن قداسة البابا كان عاتبا أيضا علي الدولة تعيين أحد خصوم الكنيسة من الأقباط عضوا في مجلس الشعب السابق وهو مفكر مصري يساري النزعة معروف بانتقاداته للكنيسة والنظام السياسي القائم معا, ولقد وعدت ليلتها الأسقفين المحترمين بأنني سوف أواصل بذل الجهود للخروج من ذلك الموقف المحتقن, وقد أجريا اتصالا معي في اليوم التالي اقترح فيه الأنبا بيشوي أن أقوم بزيارة لقداسة البابا في مقر اعتكافه بـ وادي النطرون للاستماع إليه مباشرة والتحدث معه, فأجريت من جانبي اتصالا بالزميل العزيز السفير سليمان عواد سكرتير الرئيس والمتحدث الرسمي للرئاسة حينذاك وأبلغته بما جري, فكان رده أنه لا مانع بالطبع من زيارة قداسة البابا علي أن يكون واضحا أنها مبادرة شخصية مني ولست موفدا رسميا من الدولة, عندئذ عقدت العزم علي الذهاب لزيارة قداسة البابا ـ الحبر الديني الجليل والصديق العزيز منذ عشرات السنين حين كنت همزة الوصل الرسمية بين الدولة والكنيسة بدءا من ثمانينيات القرن الماضي ـ وبالفعل توجهت ومعي الصديقان القبطيان الأستاذ منير غبور ود. نبيل بباوي الذي قام بتحديد الموعد ورافقنا, ووصلنا إلي دير وادي النطرون مع الغروب, وبعد دقائق دخل علينا قداسة البابا ورحب بنا, ولكنه كان يبدو حزينا ومهموما بشكل واضح, وبدأ يتحدث عن معاناة الأقباط ويسرد الأحداث بدءا من الخانكة والزاوية الحمراء حتي العمرانية مرورا بالكشح ونجع حمادي وعرض علينا فيلما تسجيليا لاستخدام الشرطة للرصاص الحي مع متظاهري العمرانية الذين قطعوا الطريق العام, مما أدي إلي مصرع بعضهم واعتقال العشرات منهم, وبعد حديث طويل استمر لساعات, تبلور الحديث في نهايته إلي مطلبين أولهما الإفراج عن المحبوسين من شباب الأقباط بسبب أحداث العمرانية, وقد عبر قداسة البابا عن أمله في أن يتم ذلك قبل الكريسماس القبطي وهو السابع من يناير, والمطلب الثاني هو أن يلتقي قداسته مع رئيس الدولة منفردين خصوصا أن ذلك لم يحدث إطلاقا منذ عصر الرئيس السادات, وقد خرجنا من حضرة البابا ونحن متفائلون بأن الحوار يمكن أن يحطم رأس الأفعي الطائفية ويضرب القوي الشريرة التي تساندها علي أن يكون تطبيق القانون ـ والقانون وحده ـ هو الحكم الفصل في أي حادث طائفي يقع ونقلت الأمر إلي المسئولين وقتها, وبالفعل فك قداسة البابا اعتكافه وغادر عزلته وعاد إلي شعبه من مسيحيين ومسلمين, وحضر افتتاح البرلمان المصري بعد ذلك بأيام ثم توالي الإفراج عن الشباب القبطي الذي شارك في حادث العمرانية, كما جري لقاء منفرد بين قداسة البابا ورئيس الجمهورية أظن أن البابا قد شرح فيه كل ما أراد وخرج مستريحا حتي حدثت كارثة جديدة بعد ذلك بأيام قليلة وهي تفجير كنيسة القديسين بمدينة الإسكندرية مع الدقائق الأولي لميلاد العام الجديد, وللقارئ أن يتصور احتمالات تفاقم الأزمة لو أن ذلك الحادث الإجرامي قد جري والبابا لا يزال علي اعتكافه عندئذ تأكدت من صواب الخطوة التي اتخذتها واكتشفت تأثيرها في الإقلال من حدة الاحتقان الذي صاحب تلك المأساة المروعة, وفي عشية الاحتفال بـعيد الميلاد في السابع من يناير1102 اتصل بي الصديق هاني عزيز وقال لي إن قداسة البابا يريد أن يتحدث إلي هاتفيا, وبالفعل جاءني صوته يشرح لي أن توجيه الشكر للدولة ورئيسها في خطبة عيد الميلاد المجيد بعد الصلاة في الكنيسة لن تلقي استحسانا من الحاضرين هذا العام, وفي الغالب سوف تكون هناك ردود فعل سلبية عند ذكر اسم الرئيس في أعقاب سلسلة من الأحداث الطائفية التي أزعجت المصريين جميعا, ووجدتني أوافق البابا علي قراره في ألا يوجه الشكر لأحد بالأسماء فردا فردا, وأعجبني كثيرا الإخراج الذكي للبابا في فقرة الشكر العامة مع التركيز علي الوطن والشعب وحدهما, وكأنه كان يري الثورة القادمة بعد أيام قليلة جنينا يتحرك في أحشاء الوطن, وعندما قامت الثورة المصرية وارتفعت صيحات التحرير من الميدان الكبير قلت علي شاشات التلفزيون إنه لو لم يكن لهذه الثورة العظيمة إلا فضل واحد وهو اختفاء الأحداث الطائفية وسط الحشود المليونية لكان ذلك سببا كافيا لعظمتها وسموها, ولكن مضت أيام قليلة وأطلت الفتنة بوجهها الكئيب من قرية صول في مركز أطفيح وتبعتها سلسلة مخزية من الجرائم الطائفية التي تدعونا إلي اليقظة الكاملة والصحوة الحقيقية لاستئصال ذلك الداء اللعين من قلب وطن عظيم لا يفرق بين أبنائه ويحترم كل مقدساته, ويقف صفا واحدا ضد تلك الهجمة التي تستهدف أمن مصر واستقرار الكنانة ومستقبل أجيالها القادمة.
جريدة الأهرام
31 مايو 2011
http://www.ahram.org.eg/Archive/549/2011/5/30/4/81122.aspx