قادتني ظروف الترشيح لمنصب قومي إلي القيام بجولة في ثماني دول عربية, أربع مغاربية وأربع مشارقية, وذلك خلال تسعة أيام فقط, ويعلم الله وحده مدي الجهد الذي بذلته أنا والمرافقون معي في إتمام هذه الجولة, لكن بعيدا عن ذلك المنصب القومي وما يدور خلف كواليسه من محاولات يحكمها الهوي.
, وتدفعها الأطماع, بل وتقودها أحيانا دوافع لا مبرر لها, فإنني أسجل بعض الملاحظات التي استمعت إليها في جولتي التي شملت لقاءات مع رؤساء للجمهورية, ورؤساء للحكومات, ورؤساء للبرلمانات, ووزراء للخارجية, وسفراء مرموقين, وشخصيات عربية تعشق مصر, وتعرف قدرها, وتحيي ثورتها, وتعبر عن فرحتها بعودة مصر إلي مجالها العربي, وممارسة دورها الطبيعي, ولعلي أوجز تلك الملاحظات في المحاور الآتية:
أولا: يدرك معظم المتحدثين حجم الفساد الذي كشفت عنه الثورة الشعبية المصرية, فلقد كان الكل يدرك أن مصر مكبلة اليدين, ومعدومة الإرادة, ومازلت أتذكر تعليقا للصديق الدكتور مصطفي عثمان إسماعيل وزير خارجية السودان الأسبق عندما قال أمامي منذ سنوات: إن مصر تبدو كالفيل عندما يجري حبسه في حجرة!, لذلك فإن الترحيب العربي بالثورة المصرية نابع من استعادة القاهرة لدورها القومي في جميع الاتجاهات, ولقد جاء إتمام المصالحة الفلسطينية في العاصمة المصرية منذ أيام بمثابة إعلان عن استعادة الكنانة لدورها القومي, وخروج الفيل الضخم من الحجرة الضيقة!
ثانيا: يبارك الأشقاء العرب بالتقدير والعرفان دور القوات المسلحة المصرية والمجلس الأعلي لها, الذي يدير البلاد في نزاهة وتجرد, وينحاز إلي الشارع المصري دون أن تستبد به شهوة الحكم, أو الرغبة في القمع, أو تقييد حركة الثوار. إن الثورة المصرية تبدو لهم ـ ولغيرهم ـ نموذجا فريدا يستهوي الجميع بالدراسة, ويدفعهم إلي التأمل, لكن الجميع لا يخفي أيضا قلقه مما يمكن أن تتعرض له هذه الثورة العظيمة من أزمات داخلية, ومشكلات ذاتية, فما أكثر الثورات ـ عبر التاريخ ـ التي أكلت أبناءها, بل وأطاحت بمن قاموا بها, وأسكتت المؤيدين لها باسم الثورة ومبادئها!, لذلك فالكل يعول علي الذكاء الفطري للمصريين, وحبهم الشديد لبلدهم وحرصهم عليها.
ثالثا: يخشي الكثيرون من عشاق مصر في الوطن العربي من شهوة الانتقام, وروح التصفية التي تسود بين الأغلب الأعم من المصريين, ويرون أن تلك الروح الوافدة لم تكن طبيعتهم عبر تاريخهم, فهم معروفون بالوسطية والاعتدال, بل والتسامح أيضا, وعندما ترد عليهم بأن حجم الفساد السياسي والمالي والإداري, وتقزيم دور مصر, واختلاط السلطة بالثورة, وشيوع الفقر, كلها عوامل شحنت المواطن المصري, وغيرت من فطرته, وبدلت من طبيعته, وجعلت روح الانتقام لديه مبررة ومشروعة, فإن هذا الرد يبدو مقنعا للبعض, لكنه لم يكن كافيا ولا شافيا لدي البعض الآخر.
رابعا: إن الحفاوة التي قوبلت بها في كل العواصم العربية التي زرتها جعلتني أدرك أن الكل يعرف قيمة مصر, ويدرك المعدن الحقيقي لرجالها, ويفهم مواقفهم في الماضي والحاضر, ويثمن قيمتهم الفكرية, ورؤيتهم السياسية.
خامسا: فاتحني البعض في أثناء جولتي في مواقف عدد من ثوار التحرير وتنظيماته تجاه المرشح المصري, لكنهم أعفوني الإجابة عندما ذكروا مباشرة أنهم يدركون أنه عقب الثورات تبدو هذه ظواهر طبيعية حتي في تقويم الملائكة أنفسهم وليس البشر فقط, وقد أضفت إليهم أن أي محاولة عادلة ونزيهة لقياس الرأي العام المصري سوف تعطيني ما أستحق, ثم ذكرت لهم أسماء عدد كبير من قيادات شباب الثورة الذين أعتز بدعمهم, وأقدر فهمهم العادل لتاريخ الأشخاص بما فيها من نقاط مضيئة بدلا من التركيز فقط علي بعض الأخطاء البشرية التي لا يبرأ منها مواطن, خصوصا إذا كانت دراسته ومهنته هي علم السياسة, لذلك فإن وجوده علي المسرح العام, ولو في دور هامشي, أمر يصعب تلافيه, وليست العبرة عندئذ بحكمنا علي النظام بقدر ما يكون حكمنا علي أبناء الوطن أنفسهم بما لهم وما عليهم.
سادسا: إن العاشقين لمصر, والمحبين لشعبها في العالم العربي أكبر وأضخم وأعظم مما نتصور, ولقد أدركت ذلك من إلمامهم بالتفاصيل الدقيقة, ومتابعتهم الكاملة ليوميات الثورة المصرية, وآرائهم الصائبة في تطوراتها, وحتي المتعاطفين منهم مع الرئيس السابق ـ بشيخوخته ومرضه ـ لا يستنكرون علي المصريين أبدا حقهم في استرداد أموالهم المسلوبة, وأموالهم المنهوبة, ويتفقون معنا في أنه قد جري تجريف الوطن من موارده.. وعوائده.. وكوادره في وقت واحد.
سابعا: يدرك أشقاؤنا أن الثورة المصرية سوف تواجه تحديات خارجية, ومخططات أجنبية من كل من كانوا سعداء بغيبة الدور المصري, وتراجع مكانة الكنانة عبر العقود الأخيرة, ويشعر هؤلاء الأشقاء بأن الدور المصري, وهو يستعيد عافيته, ويسترد مقوماته, سوف يدخل في مواجهات لابد منها, ولا يمكن تلافيها, لكن التفاف الأشقاء حول مصر ودعمهم لها سوف يكون خير عون أمام أعداء العروبة والقومية برؤيتها الحديثة التي تقوم علي التواصل والاندماج, بدلا من الشعارات الجامدة, والأفكار المتحجرة.
هذه قراءتنا من جولة سريعة شملت المغرب, وموريتانيا, والجزائر, وتونس, كما شملت أيضا الأردن, وسوريا, والمملكة العربية السعودية, ولبنان, إلي جانب اتصالات داعمة كان أبرزها قادما من عاصمة العباسيين بغداد.. قلعة النضال, وخاصرة بلاد النهرين, كما أن دور الأرض المقدسة مهبط الرسالة, ومنزل الوحي في دعم مصر سوف يظل شاهدا علي الأخوة العربية, والعروة الوثقي التي لا انفصام لها, وتبقي الثورة المصرية التي غيرت موازين القوي في المنطقة, وجعلت صورة مصر مصدر شموخ واعتزاز, تبقي هذه الثورة حاضنة لدورنا الذي ما كان يمكن أن يتاح لنا لولا ما جري منذ الخامس والعشرين من يناير عام..1102 إنها انتفاضة شباب.. وثورة شعب.. ورسالة أمة.
جريدة الأهرام
17 مايو 2011
http://www.ahram.org.eg/Archive/535/2011/5/16/4/78562.aspx