جاء علي مصر حين من الدهر كانت تجسد فيه أحلام امتها العربية وآمال شعوبها في التحرر الوطني والتنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية عندما تزعم قيادتها تيار قومي في مواجهة الضغوط الاجنبية والقوي الخارجية, ورغم أننا نعترف أن لتلك المرحلة من المد القومي الذي قادته القاهرة سلبياته ايضا وأن الصورة لم تكن وردية تماما كما أن مساحة الديمقراطية.
كانت ضيقة كما غابت الرؤية البعيدة للمستقبل القومي وتقلصت مساحة السياسة والدبلوماسية لصالح أجهزة الأمن وأدوات التوجيه المباشر ولكن ظلت مصر تحتل مساحة كبيرة في قلب امتها العربية الي ان جاء حين اخر من الدهر خصوصا في العقدين الاخيرين فتراجع الدور الاقليمي لمصر ولم تعد شيئا مذكورا!!
وكنا نشعر بالخزي والخجل لمواقفها الانسحابية من كثير من المجالات فتركت مساحة فارغة علي ساحة الشرق الأوسط حتي حاولت الدبلوماسيتان الايرانية والتركية ملء ذلك الفراغ ومصر ترقب ما يجري في صمت وترفض الاشتباك الدبلوماسي أو الحوار السياسي مع الغير وهما منها بأن ذلك منجاة ودليل علي ادخار الجهود للبناء الداخلي والانصراف عن المشكلات الخارجية وذلك تفكير مغلوط لانه يعني ببساطة ان مصر تبدو وكأنها تفرط في عروبتها وتتنازل عن دورها استجابة لضغوط خارجية ومؤثرات اجنبية, وكنا نري نظرات الاشفاق والتعاطف من اشقاءنا العرب في المناسبات المختلفة وهم يتساءلون في لوعة وقلق أين انتم؟ ولم نكن نستطيع تقديم الاجابة الشافية الا ان تكفل جيل جديد من أبناء الشعب المصري بصيحاتهم المدوية في ميدان التحرير من تغيير المشهد كاملا عندها قال العرب في صوت واحد( مصر عادت) ولكي لا استغرق في تحليل لا يخلو من عاطفة فانني اتقدم برؤيتنا لطبيعة الدور العربي لمصر في اطار مسئولياتها القومية ودورها التاريخي وتضحياتها المشهودة وأقول ما يلي:
أولا: ان تاريخ نظرية الدور بالنسبة لمصر طويل وواضح فلقد حكمت الجغرافيا طبيعة الموقع الوسطي لـ مصر في قلب العالم العربي فضلا عن وقوفها علي البوابة الشمالية الشرقية للقارة الافريقية ولقد كانت مصر دائما تبيع دورا سياسيا نشطا تشتري به تعاونا اقتصاديا ملموسا! فمصر القوية هي التي تمارس دورا يجذب اليها الغير ويسمح بتدفق الاستثمارات وأفواج السياح ووفود طالبي العلم وراغبي متابعة التجربة المصرية في مراحلها المختلفة فلا يتوهم أحد الدور هي طريق من اتجاه واحد تعطي فيه مصر ولا تأخذ بل هو طريق مزدوج يؤدي الي التضامن السياسي والتعاون الاقتصادي والاندماج الثقافي.
ثانيا: ان الصورة الذهنية للدور المصري وتحريكه مستقادة لدي الكثيرين من مرجعية واحدة وهي العصر الناصري بما له وما عليه وربما عصر محمد علي ايضا بفتوحاته وانتكاساته وواقع الأمر ان الدور السياسي الخارجي لا يعني علي الاطلاق التورط في مغامرات عسكرية أو الدخول في مواجهات اقليمية حادة ولكنه يعني النفقات المطلوبة والتضحيات المسحوبة ولكن العائد دائما ايجابي بالنسبة لـ مصر فالدور لا يعني فقط حرب اليمن أو نكسة يونيه في ستينيات القرن الماضي ولكنه أمر أوسع من ذلك وأشمل فاذا كانت الطموحات الامبراطورية لـ محمد علي تختلف عن التطلعات القومية لـ جمال عبالناصر فانهما معا يختلفان عن توجهات قائد آخر هو أنور السادات الذي أظنه ثاني رجل دولة في التاريخ المصري الحديث بعد محمد علي ولقد قلت ذلك صراحة في مناسبات كثيرة وأثناء نظام الحكم السابق علي اعتبار ان عبدالناصر قامة قومية عالمية هي أقبرب لفكرة الزعيم البطل منها الي فكرة رجل الدولة أو الرئيس المناور.
ثالثا: ان الدور المصري التزام سياسي لا يمكن الخروج عنه لان مصر بلد لا يعيش وحده ولا يقبل العزلة وهي تجد في عروبتها مجالها الحيوي مع اعتراضي علي ذلك التعبير لما ينطوي عليه من مرجعية ترتبط ببعض مراحل الفكر النازي قبيل الحرب العالمية الثانية ولكني استخدمها هنا للدلالة علي أن البيئة الاقليمية لـ مصر هي عربية الطابع حتي ولو كانت افريقية الموقع والمجال الحيوي هنا تعبير مشترك ينسحب علي مصر وشقيقاتها العربيات في تكافؤ وندية وتوازن.
رابعا: إنني أتساءل هل يمكن لـ مصر التي تملك واحدا من أقدم الاجهزة الدبلوماسية في عالمنا المعاصر ان تترك هي وغيرها من الدول العربية, الدولة الفارسية لكي تكون متحدثا وحيدا حول مستقبل المنطقة واحتمالاته بدعوي الحوار أو النزاع حول الملف النووي وهل نترك ايضا للدبلوماسية التركية. مع تقديرنا لبعض جوانبها. أن تتحرك وحدها علي الساحة الاقليمية ان الامر مختلف اذ يجب ان نتصرف كقوي فاعلة وليس مجرد ارقام علي خريطة ومن يتصور ان هناك تعارضا بين القطرية والقومية هو قصير النظر عاجز الرؤية لان الانتماء الي الكيان الاصغر يعزز بالضرورة الانتماء الي الكيان الاكبر, فالوطنية المصرية لا تتعارض مع القومية العربية بل هما انتماءان متكاملان بشهادة التاريخ وواقع الجغرافيا أي بالزمان والمكان بل والسكان أيضا.
خامسا: ان كلمة الدور ليست تعبيرا سياسيا معيبا حتي ينتقده المتحمسون للانكفاء القطري والنظرة الشعوبية كذلك فان كلمة لا في الدبلوماسية لا تعني استئناف الحرب في اليوم التالي ولا تدل علي أن الدور يمضي في اتجاه سلبي بل هي تأكيد لوضوح الحوار وسلامة الرؤية وعمق التفكير, ولقد لاحظت في السنوات الاخيرة ان موافقة مصر علي كثير مما طلب منها واستجابتها للضغوط عليها قد أطاحت بجزء كبير من هيبتها الاقليمية ودورها الحيوي ووضعتها في موقف لا تحسد عليه ولعله من حقي شخصيا أن اسجل هنا انني رفضت الضغوط الشديدة التي مورست علي زيارة اسرائيل عام4002 لتمثيل مصر في الاحتفال بمرور ربع قرن علي توقيع اتفاقية السلام حيث أكدت انني لا اقبل نفسيا زيارة اسرائيل في ظل ممارساتها العدوانية في العقود الاخيرة ومع ذلك فانني اسجل التزامي بالسلام والمحافظة عليه فهناك فارق بين ان نقول لا وبين ان نقرع طبول الحرب التي لا نريد لها ان تعود ولكننا نطالب بالدولة العبرية باحترام قرارات الشرعية الدولية والدخول مع العرب والفلسطينيين في مفاوضات جادة لا توقفها بالاستيطان ولا تجمدها بمواصلة العدوان.
ان قضية الدور المصري هي معطاة تاريخية وواحدة من المسلمات التي لا يجب التشكيك فيها أو الحد من قيمتها وأنا أتذكر ان الوطنية المصرية تقدم دائما الارضية الصالحة للقومية العربية انتماء وفكرا وسلوكا وانه مما يدعو الي الارتياح ان يكون من تداعيات ثورة يناير المصرية صحوة في الجهاز الدبلوماسي بقيادته الجديدة لكي تصلح اخطاء الماضي وترمم اثار انكماش الدور وتراجع المكانة فمصر تفتح ذراعيها للدول العربية والافريقية وكافة القوي العالمية التي تتفهم طبيعة الدور المصري وتدرك ابعاده.. انني أريد ان اقول بايجاز ان الدور القومي المصري هو ركن ركين من شخصية الدولة المصرية منذ ابرام المعاهدة الاولي من الحيثيين أو الاشتباك العسكري مع الهكسوس ولقد توالت علي ارض الكنانة الحضارات ووفدت اليها الثقافات ولكنها ظلت دائما معقد الامل وموطن الرجاء لانه لا يوجد من يعيش وحده كذلك فإننا لم نعثر بعد علي من عاش الزمان كله ووجد في كل مكان علي نحو دائم حتي يجعله ذلك قادرا علي أن يحتكر الحكمة ويفرض رأيا علي غيره, فالقضية مفتوحة والجدل مطلوب والحوار حضارة.
جريدة الأهرام
19 أبريل 2011
http://www.ahram.org.eg/Archive/507/2011/4/18/4/73571.aspx