جاءت نظم ثم ذهبت وسادت حضارات ثم بادت وبرز زعماء ثم انصرفوا ولكن بقيت دائما هي الأوطان تطل علي مواكب التاريخ وترصد دورات الزمان وبعضها لا يختفي أبدا
ومصر من هذا النوع المتواصل منذ فجر الانسانية حتي يقضي الله أمرا كان مفعولا لذلك فإن جراح الوطن تدمي القلوب وعندما تشتعل النيران في منشآته تحترق معها الأفئدة خصوصا أن حرائق يناير2011 تعيد إلي الذاكرة تلقائيا حريق يناير1952 كما أن أحزان المصريين عندما غابت الشرطة عن الشارع فجأة في يناير2011.
وخلال ظرف عصيب وأيام مضطربة فإنها تشبه الي حد بعيد الانسحاب المفاجيء للجيش المصري في يونيو1967 فلقد كانت النكسة هزيمة خارجية أما الفوضي فهي طعنة داخلية ويهمني هنا أن أوضح بأن حق الشعوب في الثورة الشعبية مكفول في كل زمان ومكان كما أن صوت الشباب يجب الاستماع إليه بل ويتحتم ذلك لأنه صاحب الحق في المستقبل الذي قد لانعيشه فمن غير المؤكد أن نشارك فيه, وليس مقبولا أبدا أن نضع نحن خطوطه ونفرض علي الأجيال القادمة أسلوب حياتها ولست أنكر أن ما بدأ في ميدان التحرير كان انتفاضة شبابية لها احترامها وهي جديرة بأن نأخذها بالجدية والاهتمام اللازمين ولكنه لا يخفي علينا أيضا أن عناصر كثيرة اندست فيها وحاولت استثمارها لصالح أهدافها ولقد سألت أحد أقطاب جماعة الإخوان المسلمين ـ الذي أختلف معه فكريا مائة وثمانين درجة ولكنني أعتز بصداقته الشخصية في كل الظروف ـ عن مدي مشاركة الجماعة في تلك المظاهرات خصوصا بعد أن تفاقمت وأحدثت تأثيرها في الشارع المصري فأجابني الرجل بصراحة ووضوح قائلا إن الشباب النقي الجديد علي الحياة السياسية يمثل الثلث وأن جماعة الإخوان تمثل الثلث الثاني وأن الحركات الاحتجاجية المنظمة وبعض كوادر أحزاب المعارضة يشكلون الثلث الباقي وإذا صح هذا التحليل أو لم يكن فإننا أمام ظاهرة احتجاجية عامة تعيد في جزء منها الي الأذهان حركة الطلاب التي انطلقت من شوارع باريس عام1968 لتجتاح غرب أوروبا كلها بعد ذلك إيذانا بتحول كبير انتقلت به دول من عصر النجوم اللامعة والقيادات التاريخية الي عصر الحكام المقيدين بأطر ديمقراطية لا مجال لنزعات الفرد في التأثير عليها, ويهمني هنا أن أسجل الملاحظات التالية:
أولا: إنه رغم بعض سلبيات ما جري إلا إنني أري فيه إيجابيات أكبر فلقد جددت شباب الروح المصرية التي لم تتنسم رياحا جديدة منذ انتصار أكتوبر العظيم وأثبتت التماسك القوي لفئات الشعب المصري وطبقاته وطوائفه فلم نسمع عن اعتداء علي كنيسة أو استغلال لمسجد مما كنا نسمع عنه في الأوقات العادية بما يؤكد أن الفتنة الطائفية فيروس عارض وليس مرضا مزمنا في جسد الأمة المصرية كما أن التحام المصريين من مختلف شرائح العمر والمستويات الثقافية والطبقات الاجتماعية للدفاع عن ممتلكاتهم وسلامة أسرهم من عصابات السلب والنهب والهاربين من السجون تؤكد هي الأخري صلابة المعدن المصري وتذكرنا بجماعات الصحوة التي تشكلت ذاتيا في المدن العراقية لتواجه سطوة الجماعات الارهابية والجريمة المنظمة والعنف المخطط.
ثانيا: إن المشاعر العربية الدافئة التي عبرت بها شعوب المنطقة عن حبها للشقيقة الكبري وحرصها عليها سوف تظل علامة فارقة تؤكد مكانة مصر لدي شقيقاتها العربيات وقربها الشديد من قلب أمتها ومزاجها القومي, فمن الطبيعي أن تستدعي القلاقل التي تجري في مصر كل اهتمام الجيران بقوة الجغرافيا ومنطق التاريخ وعنصر المصلحة المشتركة ولكن الواضح أن الأمر قد تجاوز ذلك لكي يطفو بشدة متجاوزا المنطقة الاقليمية ليطرح نفسه علي الساحة الدولية كلها, فالرئيس الأمريكي يتحدث عما يجري في مصر أكثر من مرة في اليوم الواحد والسيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية تتحول الي متحدث رسمي عن الموقف الأمريكي تجاه أحداث مصر كلما ظهر جديد فيها أما المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض فقد كانت بعض معلوماته عما يجري في مصر أشبه بمعلوماتي في علوم الفضاء فالواقع يسبقه بكثير.
ثالثا: لقد تأكد للجميع أن استقرار مصر هو ركيزة الاستقرار في الشرق الأوسط وصدق بالفعل من قال( اذا عطست مصر فقد أصيب الشرق الأوسط بـ الانفلونزا) بل لقد بدا واضحا وظهر جليا من مشاورات الادارة الأمريكية مع الدول المجاورة ـ عربية أو غير عربية أن مصر هي بحق عمود الخيمة في الحرب وفي السلام معا, ففي الأولي لها القيادة وفي الثانية لها الريادة بل إنني أظن أن الشعور المصري بالانتماء العربي قد تعزز في الأحداث الأخيرة خصوصا عندما رفع بعض المتظاهرين صور الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في حنين واضح إلي سنوات المجد القومي والدور الاقليمي والعدل الاجتماعي.
رابعا: إن الشباب النقي الذي لم تلوثه الحزبية ولم تحركه دوافع شخصية كان هو القادر دائما علي إعطاء القدوة وضرب المثل وتحقيق المصلحة لوطنه ولجيله بعيدا عن الأهواء الذاتية والأغراض الشخصية والمنفعة العابرة لذلك فإننا حين نستدعي تلك الظروف الصعبة التي عاشها المصريون في الأيام الأخيرة فإننا نستدعي تلقائيا إرادة الشعوب التي تحتاج إلي من يعززها ويثقل معدنها ويستخرج منها أفضل مافيها.
خامسا: إن المعادلة الصعبة بين الأمن في ظل أوضاع يسود فيها الفساد ويشيع الفقر وتختفي العدالة الاجتماعية لايمكن أن يكون أبدا جزءا من معادلة متكافئة مع مجتمع رشيد يستمتع بمظاهر الحكم الديمقراطي وسيادة القانون ولكنه يعاني أحيانا من الانفلات الأمني لأن قبضة الدولة ليست قوية بالقدر الكافي, إننا في الحقيقة نطلب وضعا متوازنا فيه الحرية والاستقرار فيه الديمقراطية والأمان فيه التنمية والعدالة وليس ذلك أمرا مستحيلا علي المجتمعات المعاصرة بل إنه يبدو ممكنا أن يسود الاستقرار بمنطق العدل وأن تنتعش الحرية في ظل الشعور بالأمن والأمان ولابد أن أسجل هنا أننا قد شعرنا بقيمة الأمن وأهميته وضرورته في الأيام الماضية وإذا كانوا قد قالوا من قبل( إن الصحة تاج علي رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضي) فإنني أقول إن الأمن تاج علي رءوس الآمنين لا يراه إلا المهددون.
.. لقد كنت أنوي أن أكتب هذا الأسبوع تعليقا علي بيان أصدره مكتب الدكتور حسن الترابي في الخرطوم تحت عنوان( أفكار عامة للرد علي د. مصطفي الفقي في التصريح المنسوب إليه في جريدة الأهرام الدولية) ولكن سلم الأولويات تغير وأطلت علينا أزمة الوطن الأول, فأجلت محنة الوطن الثاني ولعلي أؤكد في النهاية أن مصر الزراعة والحضارة الآثار والتاريخ النيل والبحار والجغرافيا والمكان سوف تبقي كلها لكي تمثل سبيكة فريدة في شخصية مصر وهويتها التي لن تضيع أبدا بل سوف تظل مركز إشعاع يطل علي الدنيا من حولها دولة لسيادة القانون واحترام الدستور ورعاية مبدأ المواطنة في شموخ وكبرياء وكأن دلتا النيل في الشمال تفتح يديها للدنيا من حولها تلهم التاريخ وتعلم الأمم وتوقظ الشعوب.
جريدة الأهرام
2 فبراير 2011
http://www.ahram.org.eg/Archive/431/2011/2/2/4/61170.aspx