تظهر الانتخابات ـ في أي بلد ـ أخلاقيات المجتمع وسلوكيات الناس وطقوس الحياة لأن الانتخابات ظاهرة ترتبط بالشارع بما فيه وماله وما عليه, وتواكب الانتخابات عادة مظاهر متعددة أهمها الدعاية الكثيفة والوعود الكاذبة والادعاءات الظالمة والتي تنعكس علي الصحافة.
بكل أطيافها; عناوين زاعقة وعبارات صارخة وأحكام قاطعة, وقد تركت الانتخابات الأخيرة لبرلمان2010 جراحا غائرة ومواقف متناقضة وصورة عامة لا تخلو من بعض القلق ولا تبرأ من مسحة يأس بدأت تتردد أصداؤها علي المستويات المحلية والإقليمية والدولية, والآن دعنا نسوق الملاحظات الآتية:
أولا: إن الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة لمجلس الشعب2010 قد حظيت باهتمام عربي ودولي غير مسبوق وربما يكون السبب في ذلك هو ارتباطها بتحولات سياسية ودستورية وحراك سياسي شهدته الساحة المصرية في السنوات الأخيرة كما أن أهمية المجلس الجديد هي أن المرشحين لمنصب الرئيس يحتاجون إلي حد أدني من التمثيل داخل ذلك البرلمان من هنا فإن مقاطعة حزب الوفد نظريا لهذه الانتخابات كان تصرفا سلبيا مهما كانت دوافعه ومبرراته ينال تلقائيا من مصداقية المجلس والحزب في وقت واحد لأن غياب ممثلي جماعة الإخوان المسلمين لا يمثل ضربة للبرلمان الجديد أولا لأنها جماعة محظورة قانونيا وثانيا لأن أعضاءها يختفون تحت عباءة المستقلين فلن يشعر المجتمع باختفائهم من المجلس إلا من خلال افتقاد ممارساتهم بكل ما يلحق بها من صخب وضجيج وانفعال.
ثانيا: إن انتخابات مجلس الشعب الأخيرة تقدم إشارة واضحة لكافة أعراض أمراض المجتمع المصري ومشكلات الوطن كما أنها تشير بوضوح إلي الخلل في توازنات القوي السياسية وأوزان الأحزاب علي الساحة وتعطي انطباعا تلقائيا بأن الديمقراطية في مصر لم تشب عن الطوق بعد فلم تبلغ سن الرشد ولازالت تتأرجح بين أحادية التنظيم وتعددية الأحزاب, لذلك فإنني أظن أنه رغم جهود الأحزاب خصوصا حزب الأغلبية في تطوير هيكلها التنظيمي وتربية كوادرها السياسية والقيام بعملية إصلاح شامل لبنيتها التنظيمية إلا أنها لم تنعكس كلها بشكل ايجابي علي الشارع المصري.
ثالثا: إنني ممن يعتقدون أن الكيان البشري معقد بطبيعته وأن الوحدة الإنسانية تحتاج إلي نمط يتميز بالشمول عند دراسته فالإنسان مخلوق معقد التركيب متداخل المشاعر قد لا ترصد مواقفه الحقيقية وآراؤه الصادقة استقصاءات الرأي أو الحسابات الالكترونية للعملية الانتخابية لأن المسألة تخضع في النهاية لتربيطات فئوية أو معادلات عائلية أو توازنات جغرافية, لذلك فإن الأحكام القاطعة في العملية الانتخابية لا تكون صحيحة بالضرورة لأنها تطبق المعايير الدقيقة في الدراسات العلمية والرياضيات علي الظاهرة البشرية التي يصعب أحيانا رصد مشاعرها وتوقع مواقفها.
رابعا: إن شيوع النفاق وانتشار الكذب وغياب قيم الصدق والموضوعية قد أفرزت هي الأخري مجتمعا هشا لا يتحمل أفراده النتائج المفاجئة, فكل مرشح يتوهم أنه الفارس الأول والرابح الوحيد بسبب ما يستمع إليه من وعود كاذبة وتطمينات زائفة ومجاملات تبدو بعيدة عن الواقع والحقيقة, ولقد كنت أستقبل شخصيا عشرات المكالمات من معارفي المرشحين والمرشحات في الدوائر المختلفة يؤكد كل منهم ومنهن أنه حاصل علي أعلي الأصوات وأن شعبيته كاسحة ومن الغريب أن بعض المرشحين كانوا من نفس الدائرة وعلي ذات المقعد حيث كان لدي كل منهم انطباع مبالغ فيه عن شعبيته واحتمالات فوزه المؤكد بسبب ما يستمع إليه من وعود وما يراه من ابتسامات فالكل يداهن الكل والله وحده علام الغيوب!
خامسا: لقد لعب المال والدين والعصبية أدوارا متفاوتة في الانتخابات الأخيرة كما أن حجم العنف كان أقل من توقعاتنا المتشائمة كذلك فإن شراء الأصوات ظاهرة مصرية تاريخية تدعو إلي الأسف وتؤكد أن هذا الوطن لن ينهض إلا بنظام تعليمي عصري حديث وثقافة تواكب ما يدور في عالم اليوم وإعلام يعكس الواقع بلا زيف ومؤسسة دينية قوية مؤثرة, فشعب يعاني نصف سكانه من الأمية لابد أن يعاني أيضا من كافة أمراض الجهل والفقر والمرض وذلك بدا واضحا في الانتخابات الأخيرة وحالة الشارع المصري قبلها وأثناءها وبعدها مباشرة.
سادسا: إن ضعف الأحزاب السياسية في مصر حقيقة تاريخية ولم تشهد مصر حزبا قويا إلا حزب الوفد(1919-1952) لأنه كان ببساطة هو وعاء الحركة الوطنية المصرية ومنبرها الشعبي حتي جري تشبيهه بالثوب الفضفاض الذي يضم مختلف ألوان الطيف الوطني في تلك الفترة, كذلك فإنني أظن صادقا أن تحول حركة الإخوان المسلمين من حركة دعوية واجتهاد إسلامي خالص إلي تطلع نحو السياسة وبريقها الزائف ولجوئها إلي العنف في بعض المراحل كل ذلك كان خصما تلقائيا من رصيد الديمقراطية المصرية ومستقبلها فلو أن تلك الحركة التي أنشأها المرشد الأول الإمام حسن البنا قد اكتفت بالاشتباك مع المجتمع وقيمه وتقاليده ودعت إلي الخير ونهت عن المنكر ونشرت التدين الصحيح بين الشباب واقتصرت علي ذلك دون أن يشدها بريق السياسة لتقتحم الانتخابات وتباشر الاغتيالات وتسعي إلي تغيير هوية المجتمع دون أن يكون لديها بديل كامل أو رؤية متكاملة مكتفية باشتباك الدين والسياسة واحتكار شعارات الإسلام في مواجهة خصومه السياسيين بمنطق استبعادي واستعلائي في ذات الوقت, لو لم يحدث ذلك لعرفت الديمقراطية في مصر طريقا مختلفا لا يرتبط بالمفردات الشائعة حاليا مثل التزوير وشراء الأصوات والعنف الانتخابي.
سابعا: إن ما يدهشني حقا هو تنامي ظاهرة االرأي العام في مصر وقوته وهو أمر يدعو إلي استغراب كثير من المعلقين السياسيين الدوليين, فبرغم انتقاداتهم للعملية الديمقراطية في مصر فإنهم يجمعون علي تأثير الرأي العام المصري في المنطقة كلها وهو أمر يبدو في ظاهره متناقضا ولكن جوهره يؤكد استعداد الشعب المصري العريق للديمقراطية الحقيقية والمشاركة السياسية الواسعة وتمثيل كل القوي الموجودة في الشارع المصري شريطة أن تقبل القواعد العصرية للعبة الديمقراطية وأن تؤمن بأن الأمة هي مصدر السلطات وأن تداول السلطة ودوران النخبة وتعاقب الأجيال هي مفردات حديثة للديمقراطية الحقيقية.. هذه بعض ملاحظاتنا بل خواطرنا حول الانتخابات الأخيرة نذكرها مدفوعين بضرورة إعلاء المصلحة العليا للوطن والاهتمام بالأجيال الجديدة فكريا ووطنيا وتأهيلهم سياسيا بالوعي والولاء والشعور بالانتماء, ونحن حين نقول ذلك فإننا نقوله من أجل مصر الحضارة والوطن والمستقبل ولا نردد ذلك من أجل نظام سياسي معين أو مرحلة بذاتها, فمصر أكبر وأعظم وأعمق من كل الممارسات العابرة والتجارب المتتالية وأنا أريد لشبابنا الخروج من بيئة الإحباط ومناخ اليأس الذي زرعته محاولات حمقاء لجلد الذات بتطرف مع تشويه الهوية بالاستغراق في الحديث المتكرر أمام العالم عن الفساد والفساد وحده حتي أصبحت صورة مصر في عيون شقيقاتها العربية نموذجا للتراجع واللامبالاة وانحسار الدور وخفوت الضوء والأمر في قراءتي غير ذلك لأن مصر ظهرت لكي تقود, وتحركت لكي تؤثر, وقاتلت تاريخيا من أجل السلام, وسعت دائما نحو العدل, ودولة تلك هي خصائصها لن تغيب أبدا وسوف تظل شمسها ساطعة في كل مكان لأنها مصر المعلمة والملهمة والتي اشتغل شعبها بصناعة الثقافة وبناء الحضارة وتشييد الدولة الحديثة.
جريدة الأهرام
14 ديسمبر 2010
http://www.ahram.org.eg/Archive/381/2010/12/14/4/53129.aspx