لقد كتبنا من قبل عن غياب ثقافة الصدق علي نحو أدي الي شيوع الكذب والنفاق والخداع في المعاملات اليومية والعلاقات الإنسانية بصورة تدعو الي القول بأن لدينا أزمة أخلاقية حقيقية, كما كتبنا عن غياب ثقافة التجويد مما أدي إلي غياب الإتقان والرغبة في تحقيق الكمال مع شيوع الفهلوة وتراجع نوعية العمل الجيد بما يعني أن لدينا أزمة إنتاجية وخدمية واضحة هبطت بمستوي الأداء وكفاءة الفرد وقيمة العائد, وها نحن اليوم نكتب عن ثقافة الصيانة التي تمثل الزاوية الثالثة في مثلث رأسه الصدق وضلعاه التجويد و الصيانة حتي نتمكن من الوقوف في مصاف الدول الناهضة خصوصا أن رصيدنا التاريخي الطويل يدعونا الي ذلك كما أن دورنا الحضاري العظيم ومسيرته المشهودة يحتمان علينا ضرورة الخروج من الأوضاع التي تراكمت والأفكار التي تكونت والقيم التي سادت, وقد يقول قائل لماذا يزج الكاتب بكلمة الثقافة عندما يشير الي أسباب التخلف ودوافع النهضة؟ والتفسير هنا لا يحتاج الي جهد كبير, فالثقافة هي سلوك يومي وأسلوب في التفكير ونمط في التعامل وليست فقط هي التحليق في سماوات الحضارة وفضاء الفكر وعالم المذاهب والمعتقدات, وأنا ممن يؤمنون أن العامل الثقافي أصبح هو العامل الحاكم والمتغير المستقبل في عالم اليوم بدءا من العلاقات الدولية التي يلعب فيها العنصر الثقافي دورا رئيسا وصولا الي تطور عادات الشعوب وتقاليد حياتها وأساليب معيشتها والتي يلعب فيها العامل الثقافي أيضا الدور الأساسي علي نحو غير مسبوق بل إننا إذا نظرنا حولنا فسوف نجد أن القضية الثقافية تطل علينا من كل اتجاه فالمسافة بين اسامة بن لادن و جورج دبليو بوش ـ علي سبيل المثال ـ هي مسافة ثقافة بالدرجة الأولي إذ إن هي مكوناتها اختلاف العقيدة وتباين الفكر وتفاوت الرؤية, كذلك فإن الفارق بين الشعوب المتحضرة وغيرها من الشعوب التي لم يتحقق لها ذلك القدر من الإصلاح والتقدم هو فارق ثقافي بالدرجة الأولي, حتي أن قضايا حقوق الإنسان المعاصرة بكل ما يحيط بها من صخب وضجيج هي قضايا محكومة باختلاف الثقافات وتفاوت أنماط السلوك, فالمسافة التي تفصل بين القيم الإنسانية العصرية في جانب والموروثات المتخلفة لدي بعض الشعوب في جانب آخر هي الفيصل في التعريف المعاصر لمسألة التخلف, والآن دعنا نطرق أبواب ثقافة الصيانة باعتبارها مشكلة نشعر بها في العقود الأخيرة ولنا عليها الملاحظات التالية:
أولا: إن قضية الصيانة ليست قضية ترفيه بل إن ضرورتها تزداد لدي الشعوب الأكثر حاجة والأقل ثروة, لأن الصيانة هي السبيل لحماية المنشأة أو المصنع أو المؤسسة, لذلك فإن الأفقر يجب أن يصون ما لديه أكثر لأن موارده المحدودة لاتسمح له باقتناء الجديد ولكنها تدعوه دائما الي مواصلة التجديد, فالصيانة مسألة ضرورية لمن لا يملكون الكثير وهي ضرورة أيضا بالنسبة لهم خصوصا أن قانون الزمن وعوامل التعرية وتقلبات المناخ وتواتر الاستعمال كلها عوامل تؤدي الي تقادم الثابت والمنقول وتلزم أصاحبه بإعطاء الصيانة الدورية والمنتظمة ما تستحقه من أولوية واهتمام.
ثانيا: إن ثقافة الصيانة وفلسفة أبعادها لاتبدو حاضرة في جدول أعمالنا اليومي فها هي المباني المتهالكة والمرافق المتهاوية تشير بقوة الي الإهمال الجسيم في عنصر الصيانة ولعل مرفق السكة الحديد في مصر هو شاهد عصري متحرك يشير بقوة الي أسباب الإدانة لمن قاموا عليه عبر السنين, فلو أن يد الإصلاح وثقافة الصيانة امتدت إليه بشكل دوري منتظم ما آل وضعه الي ما هو عليه الآن! وسوف ينبري صوت من الناس قائلا إنها قضية إمكانات ومن أين لنا بالموارد! وواقع الأمر أن هذا الطرح السلبي يدين أصحابه أكثر لأن الصيانة المستمرة والاهتمام الدائم بالإصلاح والتجديد المستمر هي مقومات مباشرة للتوفير والحرص علي المال العام فإذا كان لديك مبني تحرص عليه وتهتم به فسوف يتواصل رونقه وبهاؤه بينما يؤدي الإهمال الي ظهور المباني المتهالكة والواجهات الكالحة ويكفي أن أسوق هنا مثالا وهو أنك لاتدخل دورة مياه عامة أو في إحدي الهيئات الحكومية وتجد فيها صنبورا سليما! كما لا تجد عربة قطار كل مصابيحها تعمل أو نوافذها صالحة! إنها أمور بسيطة قد تبدو تافهة ولكنها تعكس أزمة ضمير حقيقية وثقافة صيانة غائبة.
ثالثا: إن النظافة ـ التي دعت إليها الديانات وحضت عليها الشرائع وطالبت بها الإرشادات الصحية الوقائية المعاصرة ـ تبدو بعيدة المنال, ولقد عشت شخصيا في بلاد أكثر فقرا وفي ظروف أكثر تعقيدا ولكنني وجدت الفقير هناك نظيفا ووجدت للمبني المتواضع هيبته واحترامه بسبب الحرص علي النظافة وإتباع أساليب تؤمن بأن النظافة هي جزء من الصيانة وعامل مؤثر في الوقاية والحماية والأرتقاء, لذلك فإنني أسجل هنا بأن ضعف الوازع العام الذي يطالب بالنظافة ويتعايش مع تراكم القمامة هو أمر أدي الي مزيد من التدهور وغياب مظاهر الجمال وشيوع ملامح القبح وانتشار الإهمال.
رابعا: إن الأخذ بمعايير الصيانة العصرية هو مؤشر لا يجب الاستخفاف به أو التخلي عنه خصوصا في الدول القديمة ذات الآثار العريقة والتي تراكمت علي أرضها ثقافات وحضارات ـ ونحن منها ـ إذ إنه يتعين عليها أن تكون أشد حرصا علي صيانة ما لديها وترميم تراثها وصيانة ثروتها الحضارية, ومع تسليمنا بالجهد المبذول في هذا الميدان إلا إنني مازلت أري بعض المباني الأثرية والكنوز الرائعة مطمورة وراء تلال الأتربة بل وربما القمامة أيضا, وأقول لحظتها( ويحك يا وطني أمن فرط ما أعطاك الله تستهين بالتراث وتقبل استخدام الأثر العظيم في غير ما أعد له؟!)
خامسا: إن ثقافة الصيانة تعني احترام حقوق الأجيال القادمة والحفاظ علي ثروتها القومية وتسليمها باحترام من جيل الي جيل, وذلك سلوك حضاري بعيد عن الأنانية المرحلية قريب من الإيمان, فالمستقبل فضلا عن أنه يمثل روح العصر وفلسفة الدولة الحديثة التي لاتتوقف يدها العاملة عن تجديد طرقها وتنظيف شوراعها وترميم منشآتها وإصلاح مؤسساتها, فالمنقولات كالكائن الحي تحتاج الي رعاية مستمرة وصيانة دائمة.
هذه بعض الأفكار التي تدور حول فلسفة الصيانة وهي تشبه ثقافة التجديد أيضا لأن كل شيء يبلي والخلود لله وحده لذلك فالأمر يحتاج منا دائما أن ننظر حولنا وأن نعترف بأخطائنا وأن نسلم بأن غياب الصيانة يمثل واحدا من مشكلاتنا الحادة, بل إنني أريد ألا يضحك القاريء إذا قلت إنني أحيانا أمد يدي بالإصلاح فيما لا أملك لأنني لا أطيق القبح وأدرك أن بعض التصرفات الصغيرة والمبادرات العاجلة يمكن أن تصلح ما ينبغي إصلاحه, وأن نقودا قليلة اليوم قد توفر عشرة أضعافها بعد حين.. إنني أؤمن أن السبيل الوحيد للإصلاح إنما يدور حول الإيمان بثقافة الصيانة والتبشير بها أمام الأجيال القادمة فإذا شب الصغير علي تعويض النقص وإصلاح الخطأ وتجديد ما يحيط به فإنه سوف يمتلك في المستقبل عينا فاحصة ترفض القبح وتعشق الأفضل وتتطلع الي أقرب درجات الكمال إمكانية وتحقيقا ودواما.
ألم أقل لكم إن الصدق و التجويد و الصيانة ثالوث أخلاقي يصل بنا الي الحق والخير والجمال.
جريدة الأهرام
30 نوفمبر 2010
http://www.ahram.org.eg/Archive/367/2010/11/30/4/50850.aspx