كلما تأملت ما يدور حولنا في مصر والمنطقة العربية استدعي ذلك في ذهني مباشرة شعورا عميقا بغياب فضيلة الصدق لأن ثقافة الكذب أصبحت شائعة في كثير من جوانب حياتنا, بل إنني لاحظت أحيانا أن البعض لن يضار إذا قال صدقا وذكر الحقيقة.
ولكنه بالتعود التلقائي يقوم بتحريف ما رآه وتزييف ما يعلمه لأن طبيعته جلبت علي خصائص يصعب توصيفها ففيها مزيج معقد من الخوف والتذاكي ومحاولة التفرد بالمكاسب وضرب الكفاءات التي تحيط به والإطاحة بأي مشروع شخصي ناجح لأنه يريد أن يكون هو وحده مستمتعا بما يتطلع إليه رافضا الاعتراف بما لدي الغير من قدرات وخبرات.
إنني لا أقول إن كل الناس علي هذه الشاكلة ولكنني أزعم أن تعبير حزب أعداء النجاح الذي صكه الإعلامي القدير مفيد فوزي ينطبق إلي حد كبير علي كثير من مشاهد حياتنا المعاصرة, إذ إن ثقافة الصدق لم تتمكن منا بعد ولم تشع في بلادنا ولعل أولي درجات الصدق هو الصدق مع النفس أي أن يكون المرء أمينا مع قدراته بحيث تتناسب مع طموحاته وأن يتوقف عن عرقلة مسارات الغير وأن يدرك أن الاجتهاد هو السند الوحيد لكي يشق الإنسان طريقه لإنجاز مشروعه الشخصي بنجاح واقتدار, وسوف أقدم الآن عددا من المشاهد التي عاصرتها علي المسرح الدولي وهي تؤكد أن الكذب مأساة لأنه مرفوض دينيا وأخلاقيا وإنسانيا, فالكاذب بالضرورة إنسان يريد أن يقفز أمام من يسبقه وأن يطيح بحقوق الآخرين معتمدا علي التآمر والنفاق والخديعة وكلها مرادفات للكذب بخصائصه المعروفة ونتائجه الممقوته, فالكاذب يعيش محنة القلق الدائم والشعور بعدم الأمان ونقص الثقة في الذات, لذلك سوف نستعرض معا بعض الأحداث الدولية الشهيرة التي أتذكرها والتي آمنت منها أن الكذب جريمة كبري تضرب المصداقية وتعصف بالاحترام وتهبط بالإنسان إلي الدرك الأسفل وقد تحيله إلي حطام في النهاية, دعنا نتذكر:
أولا: عندما هبطت إلي العاصمة البريطانية عام1791 وجدت أزمة محتدمة حول زعيم حزب الأحرار جيرمي ثورب ورأيت أن الرأي العام البريطاني يقف ضده بشدة مع أنه ينتمي بصلة قربي لصاحبة الجلالة الملكة وقيل يومها إنه كان علي علاقة بشاب يعمل كـ موديل ثم اختلف الاثنان فظننت أن تهمة السياسي البريطاني الكبير هي الشذوذ الجنسي الإيجابي كما هو واضح من تاريخه, ولكنني اكتشفت أن المشكلة التي أطاحت به ليست أبدا مسألة الشذوذ التي يعاني منها كثير من الساسة الأوروبيين, ولكن جوهر المشكلة أن ثورب قد أنكر كذبا بعض وقائع الخلاف مع صديقه المثلي والتي كادت تدفعه الي التفكير في قتله للخلاص من جسم الجريمة ويومها اكتشفت نسبية القيم فالكذب يقف علي قمة هرم الرذيلة بينما يبقي الشذوذ عند السفح أمرا مقبولا بل وشائعا, وعندما فقد ثورب موقعه في زعامة حزب الاحرار حينذاك لم يقل أحد إن شذوذه هو سبب فقدانه لمواقعه السياسي المرموق, ولكن الإجماع كان علي إدانة كذبه الذي أدي الي الاطاحة به.
ثانيا: مازلت أتذكر منظر الرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نيكسون علي شاشات التليفزيون يوم استقالته وهو يبدو مهزوما كسير النفس يستجدي الشفقة والسبب ببساطة هو أنه كذب وهو يشغل ذلك المنصب الرفيع إلا أن ذلك سوف يظل مقترنا في ذاكرة التاريخ الإنساني بجريمة ووترجيت التي كان يتنصت فيها حزبه الجمهوريون علي مكالمات قيادات الحزب الديمقراطي أثناء فترة الحملة الانتخابية! ولقد فقد نيكسون تاريخه اللامع وفتوحاته السياسية الكبيرة نتيجة تورطه في جريمة الكذب ونسي له شعبه كل إنجازاته خصوصا في السياسة الخارجية وتذكروا له فقط أنه كان رئيسا كاذبا وبطلا لفضيحة ووترجيت!
ثالثا: لقد تابعنا في أواخر تسعينات القرن الماضي المشاهد المتتالية لمسلسل مونيكا والرئيس الامريكي اللامع بيل كلينتون عندما اتهمته تلك المتدربة الصغيرة في البيت الأبيض بأنه حاول إقامة علاقة معها كما امتلكت بعض الأدلة التي تثبت صحة ادعائها, ويبدو أن ذلك كان أمرا مدبرا للإيقاع بذلك الرئيس الأمريكي صاحب الشعبية والكاريزما لفترتي رئاسة متتاليتين, وظن الناس أن نهاية حياته السياسية قد حانت ولكن الرجل بذكائه الحاد آثر اللجوء إلي درجة من الصدق الملتوي إذا جاز التعبير ولم يقع في حفرة الإنكار الصريح والكذب الكامل, ونجا بذلك من آثار مؤامرة كبري ضده وأكمل مدة رئاسة ثانية, ولو أنه كان من الحمق مثل بعض سابقيه مصرا علي الكذب والمراوغة لكان مسار القضية قد تغير في غير صالحه!
رابعا: إنني أتذكر جيدا عندما كان يطلب مني مصري أو مصرية التوسط لدي إحدي السفارات الغربية للحصول علي تأشيرة زيارة لواحدة من تلك الدول أن وساطتي كانت غالبا ما تنجح, ولكنها كانت تخفق تماما إذا ما اكتشفت من خلال توصيتي للسفير الأوروبي أو القنصل الأجنبي أن طالب التأشيرة قد كذب في بعض بياناته متوهما أن أحدا لن يكتشف أمره, بينما تكفلت الأجهزة الحديثة وفي مقدمتها سجلات الكمبيوتر بتقديم المعلومات الدقيقة حتي ولو كان ذلك المواطن الفهلوي قد استبدل جواز سفره وغير في بعض بياناته فتكون النتيجة دائما هي إخفاقه في الحصول علي التأشيرة, بل وربما حرمانه الأبدي من زيارة دولة معينة! لأن جريمة الكذب في أدبيات العقل الغربي قاتلة, ولا تعطي لصاحبها فرصة للفكاك من عواقبها مدي حياته!
خامسا: إن التطور التقني والتقدم العلمي والإنجازات الباهرة في مجال تكنولوجيا المعلومات قد جعلت الوصول إلي الحقيقة أمرا يسيرا فعندما يتصور المرء أن مايفعله سوف يكون خافيا ويضيع في زحام الحياة إلا أنه سوف يكتشف أن عصرنا الحالي لا يستر العورات ولا يخفي الجرائم, فكل شيء يبدو واضحا كالكتاب المفتوح فحتي الحياة الشخصية لم تعد لها حرمتها علي الإطلاق, كما أننا في عصر لا ينعم فيه الكاذبون بما يريدون, فالصدق كالخط المستقيم هو أقصر المسافات بين نقطتين.
.. هذه روايات وملاحظات رأيت أن أسوقها اليوم وأنا مؤمن أن مشكلتنا كعرب ومصريين أننا نقول مالا نفعل ونفعل مالا نقول! وأن الكذب بتوابعه المعروفة من ادعاء ورياء ومغالطة هو جزء أصيل من ثقافتنا توارثناه من عصور القهر والظلام حتي استوطن بلادنا ذلك الخوف الغامض من الحقيقة مع غياب التعود علي الصدق, واللجوء دائما إلي الأعذار الكاذبة والقصص الملفقة والأخبار المشبوهة, إنه أمر محزن أن يواجه مثقفونا ومفكرونا نفس ذلك الداء حتي تساوي فيه البسطاء مع الأغنياء.. إنها محنة حضارة وأزمة أخلاق وخطيئة عصر, ولن تستقيم الأمور إلا إذا توقفنا جميعا عن الكذب واحترمنا الحقيقة مهما كانت مؤلمة وعشنا في ظل ثقافة الصدق حتي ولو كان الثمن غاليا.
جريدة الأهرام
2 نوفمبر 2010
http://www.ahram.org.eg/Archive/338/2010/11/2/4/46494.aspx