للعصيان المدني تاريخ معروف يحفل بعدد من السوابق في بعض دول المنطقة ولعل السودان الشقيق هو النموذج الأقرب في هذا السياق ثم كرر السودانيون ذات النمط ونفس الأسلوب عام 1985 مع تجمع للنقابات والهيئات والطرق الدينية والأحزاب السياسية فسقط نظام جعفر النميري.
ففي الحادي والعشرين من شهر أكتوبر عام 1964 أغلق السودانيون المحال التجارية وانقطعوا عن العمل واعتصموا بمنازلهم فتوقفت الحياة تقريبا وسقط نظام الفريق إبراهيم عبود فالعصيان المدني إذن هو نوع من الاحتجاج السلبي القوي للإطاحة بحاكم مستبد أو نظام انتهي عمره الافتراضي، وقد نظرت حولي فوجدت ان النظام قد سقط وأن الرئيس قيد المحاكمة الجنائية وأن رموز النظام السابق في السجون بين معتقل ومحبوس وسجين، لقد حققت الثورة المصرية الشعبية الكثير من أهدافها التي انطلقت من ميدان التحرير في يناير 2011 من أجلها فلم يعد للعصيان المدني محل من الإعراب أو مبرر وطني قائم، وقد يقول قائل علي الفور إن الثورة لم تتم فصولا وأن هناك أقوالا تتردد وأحاديث تتكرر عن سرقة والتلاعب بمسارها لذلك فإننا نؤكد قناعتنا بأن هناك عشرات الأسباب والمؤشرات التي تقف وراء ما يجري علي ساحة الوطن بدءا من إطفيح مرورا بإمبابة وصولا إلي ماسبيرو ثم محمد محمود ومجلس الوزراء وأخيرا مذبحة بورسعيد المروعة ولانجد إلا تفسيرات غامضة وتحقيقات ناقصة وعبارات عامة، وبرغم أنني ممن لايدعمون نظرية التفسير التآمري إلا أنني أشعر بأياد خفية وربما أيضا أصابع أجنبية تعبث بأمن مصر وتسعي لتقويض دعائم الدولة.. وأي دولة؟! إنها ربما تكون أقدم دول العالم وأكثرها استقرارا علي مدار التاريخ الإنساني كله، لذلك فإن الدهشة تصيب الجميع عندما نري بلدا يضم ذلك الحشد الهائل من العقول التي يقتحم بعضها حاجز العبقرية، إلي جانب ظروف طبيعية ومناخية تؤهل مصر بمنطق الجغرافيا لأن تكون هي عمود الخيمة أو دولة الاستقرار في المنطقة لأن دورها معطاة تاريخية وحقيقة ثابتة وليس منحة من أحد، ولذلك فإنني أظن أن الدعوة إلي العصيان المدني تأتي في غير موضعها وأن الأولي أن يكون بديلا عنها هو البناء الوطني لأننا قد أضعنا تقريبا عاما بالكامل دون أن نصل إلي شاطيء الأمان فالأمن مازال غائبا والجريمة المنظمة بدأت تأخذ مسارا خطيرا في بلدنا لذلك فإننا نورد الملاحظات التالية:
أولا: إن قراءتنا لأحداث العام الماضي تعطي إحساسا عميقا بأن ثورة شعبية ضمت شرفاء الوطن ونجحت في إسقاط النظام القائم ولكن قفز عليها أصحاب الأجندات الأخري من القوي السياسية المختلفة والتيارات الفكرية المتنوعة وحاول كل منهم ان يجذب الثورة في اتجاهه وأن يستثمر عوائدها لصالحه، كما ظهرت عناصر غير معروفة الهوية اعتمدت التخريب أسلوبا والقتل العشوائي أداة لطعن الثورة في ظهرها واختلفت الآراء، فمن قائل إنها فلول الماضي وبقايا أصحاب المصالح ممن يدافعون عن أوضاع يفقدونها وميزات تضيع منهم بفعل الثورة التي ترفع العدالة الاجتماعية شعارا لها، وقائل آخر يقول بل هي مجموعات من البلطجية الذين خرجوا من معاناة الحياة وقسوة العشوائيات بل قد يكون معظمهم من أبناء الشوارع الذين عاشوا معظم سنوات عمرهم تحت الكباري في ظل أسوأ الممارسات التي لاتخفي علي أحد، وأن هؤلاء يستثمرون حالة الفوضي لكي يكونوا طرفا في الصراع المحتدم خصوصا أنهم ليس لديهم مايفقدونه، ويدخل تفسير آخر يري أن هذه المجموعات من البلطجية لقيت رعاية من بعض العناصر الأمنية السابقة حتي دخلت إلي الساحات والميادين وهي مدربة ومؤهلة لما تقوم به،ولعلي أظن أن ماجري في ماسبيرو ومحمد محمود وساحة مجلس الوزراء ثم مذبحة استاد بورسعيد هي نماذج لوجود ذلك الطرف الثالث الذي يمزق نسيج الوطن ويقطع أحشاءه بلا رحمة.
بينما الثورة الشعبية من كل ذلك براء، من هنا فقد شعرنا عندما جري الحديث عن العصيان المدني بأن طعنة من نوع جديد توجه الي صدر الأمة المصرية باسم الثورة وفي ظل شعاراتها التي خرج من أجلها الجماهير يوم الخامس والعشرين من يناير 2011
ثانيا: لماذا لانتطلع إلي المستقبل ونسعي إليه ونهرب من حاضرنا الصعب فنفكر في استقرار الدولة وسلامة أركانها وانتخاب رئيس جديد لها يعرف الطريق الصحيح نحو المستقبل الذي تستحقه مصر معتمدا علي رؤية صائبة وفهم صحيح للنهج الذي يجب أن يسلكه الوطن من أجل تحقيق أهداف الثورة في ضرب الفساد والاستبداد والاحتكام الي العدل الاجتماعي أداة وأسلوبا للوصول الي المستقبل الذي نبغيه، إننا أمام مفترق طرق فإما أن نستسلم لمواقف سلبية في مقدمتها الهدم لكل ماهو قائم والتطاول علي كل القامات مهما يكن تاريخها الي جانب حديث التصفيات حتي فوجئت أن أستاذا للقانون يطالب بحملة اعتقالات عشواء دون سند من القانون الذي درسه ولا العدل الذي تشدق به ولا الإسلام الذي انتسب إليه، كما أن العصيان المدني موقف سلبي لاتلجأ إليه الثورات إلا في حالة فقر الخيال والدخول في متاهات صحراء الفكر.
ثالثا: إنني أطالب المصريين جميعا، وأبدأ بنفسي. بأن نكون عند مستوي المسئولية التاريخية التي تمر بها البلاد وأن ندرك أن الهدف سهل ولكن البناء صعب ويجب ان نتفرغ جميعا لصياغة المستقبل وتحديد أطره وهياكله لأننا ننتمي إلي وطن يستحق أكثر بكثير مما مر به في العقود الأخيرة، ولنطرح الأجندات الشخصية جانبا ولنفكر فقط في إعلاء كلمة مصر والنهوض بها فالدولة المصرية مهددة لأول مرة في أعمدة بنائها ومؤسسات وجودها، وكفانا الوقت الذي أضعناه في السفسطة الهوجاء والجدل العقيم اللذين يخفيان وراءهما خلافات عقائدية أحيانا ولكن تصفيات شخصية دائما.
>> إن البناء الوطني أولي من العصيان المدني والمستقبل أفضل من الماضي كما أن الغد لايقل أهمية عن اليوم ويجب أن تكون دماء الشهداء الطاهرة وقودا لبناء الدولة المصرية الحديثة بعد أن طال الانتظار وضاعت الفرص وأهدرت الكفاءات ولا أعرف لماذا أتذكر الآن ماقاله البرلماني اليساري المخضرم الأستاذ كمال أحمد من أن دورة الاستعباد الداخلي قد تؤدي إلي دورة التدخل الأجنبي حتي تمضي الأمور في حلقة شريرة.. حفظ الله مصر وحماها من كل سوء.
جريدة الاهرام
21 فبراير 2012
http://www.ahram.org.eg/Archive/815/2012/2/21/4/132573.aspx