تزعجني في الآونة الأخيرة ممارسات متناثرة أري فيها مساسا مباشرا بهوية الوطن وتماسك نسيجه, كما ألاحظ شيوع مواقف تبدو بعيدة عن روح العصر وأشعر وكأن هناك ما يشدنا في اتجاه اخر, ويدفعنا نحو الدولة الدينية بكل مظاهر وجودها وتأثير القبول بها للخروج علي الإطار الذي تسعي إليه الدولة الحديثة, وانا اقر بداية انني اكتب هذه السطور احساسا مني بالمخاطر الداخلية والخارجية التي تحيط بنا وتعيش معنا لذلك سوف اسعي إلي رصد عدد من الظواهر المؤرقة والتي بدأت تمارس اثارها القوية في حاضرنا ونتائجها المؤكدة علي مستقبلنا, ولعلي اوجز بعضها فيما يلي:
أولا: ان تنامي الشعور الديني أمر مطلوب وإيجاد الوجدان الروحي في الانسان قد يكون مصدر توازن له ولاسرته ولمجتمعه, فهو امر لا غبار عليه ولاخوف منه, ولكن الجوانب السلبية التي قد تبدو كالشوائب إلي جانب الظاهرة الدينية هي مصدر القلق ومبعث التخوف فعندما تحل معادلة الحلال والحرام بديلا لمعادلة القانوني وغير القانوني فإننا نكون قد ابتعدنا عن المرحلة الوضعية إلي التحليق في سماوات العقيدة الروحية وافاق المشاعر الدينية وهنا نختلف, فالدين في ظني مخزون ذاتي من الايمان بالله والاحساس بالضعف امام عملية إيجاد ووجود الحياة وهو بذلك يربي الوازع الاخلاقي ويصنع منظومة من القيم والمثل يجب ان تنعكس سلوكا في حياة الناس, ولكن ذلك لايضع قيدا علي الممارسة الواقعية لجوانب القانون الوضعي وتطبيقاته التي تنبع من ممارسة الحياة وروح العصر وطبيعة الظروف, لذلك فان الدولة المدنية هي الخيار المعاصر للتعبير عن الامم والشعوب والمجتمعات واذا كان تعبير الدولة المدنية يوحي للبعض بأنها تخاصم الاديان أو ترفض الجوانب الروحية في الحياة فذلك وهم بل وافتراء, لان الدولة المدنية تعني ببساطة الاحتكام إلي القانون واعمال الديمقراطية والأخذ بمبدأ المواطنة بين الافراد ووضع الدين في مكانه المقدس, دون الهبوط به إلي صراعات السياسة أو دهاليز الحكم, وانا اظن ان الإسلام لم يعرف الدولة الدينية إلا ببعض السمات المحدودة في عصر الراشدين, كما ان رفع شعار الحاكمية, هو حق يراد به باطل, فالحضارة الإسلامية عرفت دائما تقاليد الحكم المدني وكان الحاكم اقرب إلي عرش الدنيا منه إلي امامة الدين.
ثانيا: انني عندما اتصل بطبيب في عيادته واسأل الممرض علي الهاتف اذا كان الطبيب موجودا اولا فانه يجيب في عفوية ان شاء الله وانا لست ضد فعل المشيئة تحرزا وتبركا ولكنني اري ان إقحام مثل هذه المقولة التي تحمل اسم الله تعالي لامبرر لها هنا, فليس ذلك مكانها! كما ان الاستغراق في طلب الفتوي الدينية في القضايا الحياتية التي لاتمس الدين تبدو لي هي الاخري امرا مفزعا, كما ان الإفراط في اقحام العقيدة الروحية في كل دروب الحياة اليومية ومفردات سلوك الانسان هو امر لاتفسير له ويدعو إلي القاء تبعه القرار الرشيد علي مفاهيم دينية لاذنب لها في اخطاء البشر, اننا في عصر العلم الحديث والتفكير المتفتح وقد دعا الإسلام الحنيف إلي كليهما وهو الذي جعل الدنيا حقيقة فيها معاشنا, ولم يطلب الاستغراق الغيبي بإقحام الدين فيما لامبرر له, ايها السادة انني اشعر بفزع وانا اري العلم يتراجع لصالح الخرافة واشاهد عشرات الجرائم ترتكب كل يوم باسم الدين بينما هي عدوان عليه وظلم له.
ثالثا: انني اقول صراحة ـ وعلي الجانب الآخر ـ ان لجوء المسيحيين المصريين إلي الكنيسة في كل صغيرة وكبيرة واقحامها في مشكلاتهم اليومية هو خروج علي النص فيما يتصل بحقوق الدولة المدنية, وانا أسلم بداية بان هناك شأنا قبطيا يحتاج إلي معالجة وان هناك ملفا للوحدة الوطنية يتطلب الرعاية وأوافق قداسة البابا شنودة الثالث ـ اطال الله في عمره ـ عندما يقول انه لايري وجود اضطهاد او تمييز ضد الاقباط ولكن يشعر احيانا بالتهميش لدورهم واظن اننا قد قطعنا في عصر الرئيس مبارك شوطا كبيرا من أجل اقرار مبدأ المواطنة والمساواة بين المصريين والمصريات في المراكز القانونية, دون تفرقة بسبب الدين في فبدأ اشقاء الوطن يتبوأون مواقعهم المستحقة في عدد من القطاعات ومنها علي سبيل المثال القضاء والسلك الدبلوماسي ولكن بقيت امامهم بعض الطموحات المشروعة في قطاع الجامعات وبعض الاجهزة الامنية والمواقع السيادية, وبرغم هذا الانجاز الذي تحقق إلا ان اشقاء الوطن يصنعون احيانا من الحبة قبة! فإذا اختلفت زوجة كاهن الكنيسة معه لاسباب عائلية وتركت المنزل فان المسلمين قد خطفوها! وإذا احبت فتاة مسيحية مسلما وتزوجته بحكم القانون جري اعدام الزوج في وضح النهار! ومطران احدي المحافظات لايلجأ إلي القضاء وحكم القانون, ولكنه يلوذ بالكنيسة ويسعي لتحريض الاقباط وزرع بذور الفتنة الطائفية! فأي دولة مدنية يمكن ان نطالب بها أو نسعي إليها بعد ذلك؟!
خصوصا وان تلك الدولة وحدها هي حامية الاقليات العددية قبل غيرها, ثم تتناثر المعلومات المغلوطة والاخبار المغرضة في الخارج دون مراعاة لظروف وطن ولامستقبل شعب! انني أربأ بالكنسية القبطية صاحبة التاريخ الوطني الطويل والمكانة الروحية العريقة من ان تتقوقع علي نفسها أو تنكفيء علي ذاتها ويكون مظهر انتمائها الوحيد للدولة المدنية هو موائد الوحدة الوطنية كل رمضان!
اننا نتطلع إلي قداسة البابا بمكانته الرفيعة وحب المصريين والعرب له ـ مسلمين ومسيحيين ـ بان يواجه ذلك التيار الذي يحاول ان يعصف بالدولة المصرية المدنية وان يوجد جيوبا دينية في احشاء الدولة القائمة, اذ يجب ان يلوذ المصريون جميعا بقانون الدولة دون اللجوء إلي قيادتهم الروحية أو مؤسساتهم الدينية, وإذا كنت احتج علي بعض مظاهر الابتزاز المسيحي للدولة, فإنني ارفض وبشدة ـ محاولات التمييز وتقاليد التهميش للاقباط سياسيا واجتماعيا فالدين لله ومصر للجميع.
رابعا: ان هيبة الدولة المصرية هي الضمان الوحيد لايجاد مظاهر العدل الاجتماعي والمساواة السياسية والقانونية بين مواطنيها وهي الإطار المشروع لفلسفة السلطة المدنية والحكم الرشيد الذي يرتفع فوق الاختلافات الدينية والفوارق الطائفية ويؤمن بأن مصر لكل ابنائها ومن يريد ان يحتج فليذهب إلي ساحة البرلمان لاساحة, الأزهر, ومن يرد ان يشكو يقف امام دار القضاء العالي, وليس خلف اسوار الكنيسة, فمصر دولة عريقة ينبغي ان تنهض فيها المؤسسات بدورها لا ان تكون فريسة للتجاوزات علي مكانتها, فالدولة المدنية هي وحدها الدولة العصرية ومن يقول بغير ذلك انما يبيع الوهم ويتاجر بالشعارات ويدغدغ المشاعر علي حساب المصلحة العليا للوطن.
خامسا: لقد اثبتت الدراسات الحديثة ان التعايش المشترك وان المجتمعات القائمة علي التعددية الدينية هي اسرع في الاتجاه نحو التقدم وأكثر استيعابا لروح العصر واقدر علي امتصاص مظاهر التحضر وعناصر الارتقاء, فالتعددية نعمة وليست نقمة لان المجتمعات متعددة الالوان اكثر ازدهارا واشد بريقا امام الغير وأكثر استجابة لروح العصر وتقاليده الجديدة, كما ان الاقليات العددية تمثل غالبا مركزا نشيطا في الحياة الاقتصادية وتلعب دورا فاعلا في التطور الاجتماعي بحكم سرعة استجابتها للأفكار الوافدة وفهمها الأكثر للروح الاجنبية ونحن في مصر لانجادل في ان اشقاءنا الاقباط يمثلون شريحة ممتازة في نسيج هذا الوطن ونتطلع جميعا إلي مظلة الدولة المدنية لكي تكون هي الاطار العام لحياتنا والخريطة الواضحة لمستقبلنا.
.. هذه خواطر طافت بذهني في ايام صام فيها الاقباط صيام العذراء ويصوم فيها المسلمون الشهر المبارك ويتطلع الجميع إلي مستقبل مصر المحفوف بالمخاطر والمليء بالتحديات, ولكن الأمل يبقي وسوف يظل دائما في مصر المعطاءة, تلك الدولة النهرية القديمة التي علمت الدنيا وألهمت الانسانية وقدمت مفاتيح الحضارة لكل الشعوب والاوطان, لانها كانت دائما دولة مدنية تحتضن كل ابنائها بل وجميع الوافدين إليها دون اضطهاد أو تمييز ولاحتي تهميش, انها مصر التي نريدها دولة مدنية حديثة بروح عصرية خالصة ورؤية وطنية كاملة.
جريدة الأهرام
7 سبتمبر 2010
http://www.ahram.org.eg/Archive/282/2010/9/7/4/37667.aspx