فى مثل هذا اليوم منذ ثمانية وأربعين عامًا كان الشعب المصرى بل الأمة العربية يختزنان إحساسًا مبهمًا لحدث ضخم سوف يقع، وبالفعل رحل الزعيم العربى فى اليوم التالى، وكأنما اهتزت أركان الدنيا الأربعة وطأطأة مدافع الأسطول السادس الأمريكى رؤوسها فى البحر المتوسط إجلالًا واحترامًا على حد تعبير الأستاذ «هيكل» فى توصيف بعض مشاهد الظاهرة التاريخية التى يصعب، بل قد يستحيل نسيانها، ومنذ أعلن نائب الرئيس وقتها «أنور السادات» فى حديث تليفزيونى مقتضب عن رحيل الرئيس «عبدالناصر» انقلبت الدنيا رأسًا على عقب، وقد سمعت الخبر فى أحد المطاعم بالزمالك وكانت معى زوجتى وبعض الأصدقاء فإذا الخبر ينزل علينا كالصاعقة ليبدد الأحلام ويدفع بالأوهام حتى إن البعض ظن أن الوطن قد انتهى وأن مصر لن تقوم لها قائمة فلقد مات الذى تعلقت به الجماهير فى السراء والضراء، فى الانتصار والانكسار، وكان مصدرًا لالتهاب مشاعرهم وإثارة أحزانهم، لأن الرجل قد رحل والأرض محتلة وإن كانت مصر واقفة على قدميها باسقة كالنخيل لم تركع ولم تستسلم، بل واصلت حرب الاستنزاف الضارية - وهى واحدة من أمجد حروب الشعب المصرى - واحتشدت فى أذهان الملايين آلام النكسة وذكريات «رأس العش»، و«شدوان»، وإغراق الباخرة «ليبرتي» إلى جانب حائط الصواريخ والأوضاع الصعبة التى كان يعيش فيها الشعب المصرى عازمًا على رد العدوان واسترداد الأرض إعمالًا لمبدأ ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، ولقد شهدت وأنا شاب فى تلك الأيام الصعبة أحزان مصر عندما تدفقت الملايين فى الشوارع وجاء زعماء الدول من كل حدب وصوب ومضى الموكب الحزين يحمل الرئيس الراحل الذى ملأ الدنيا وشغل الناس، وكنت أتأمل ما أراه مقتنعًا بظاهرة الشعور الجمعى فى الجماعات البشرية المختلفة وتصورت يومها مع بسطاء الناس أن الدنيا لن تعود كما كانت، وأنا أتذكر الآن أن رحيل «روزفلت» ومجىء «ترومان» لم يكن نهاية للولايات المتحدة الأمريكية، وأن رحيل «سعد زغلول» قبله ومجىء «مصطفى النحاس» لم يكن الأمر أيضًا نهاية لحزب الوفد ولا للحركة الوطنية، ثم ازددت يقينًا عندما رحل «عبدالناصر» وجاء «السادات» لأكتشف بأن لكل عصر رموزه ولكل زمان أفكاره ورؤاه وأن الحياة لا تتوقف عند شخص مهما بلغ قدره وتذكرت مقولة الخليفة الراشد الأول لتأكيد بشرية الرسول ذاته عندما قال: (من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت)، لقد تكالبت عليّ هذه المشاعر (السبتمبرية) لذلك الشهر الذى كان دائمًا مقدمة لحزن غامض فى طفولتى نتيجة قرب انتهاء العطلة الصيفية وبداية العام الدراسى والاقتراب من فصل الشتاء بيومه القصير وليله الطويل وعباءته الثقيلة، وهذه مناسبة لكى يتذكر فيها المصريون أن تاريخهم سلسلة متصلة الحلقات لن تنقطع أبدًا، فمصر دولة مستمرة مستقرة لم تغب عن الخريطة يومًا وظلت دائمًا مؤثرة فيمن حولها لا يخبو نورها ولا ينقطع التوهج الحضارى فى أعماقها، ولعلنا ندفع هنا بملاحظتين نسجلهما:
أولًا: إن الأفراد زائلون، وإن الحياة مستمرة، وأن الحكام يرحلون لكن الأمم باقية فحتى المنتصرون قد تستبعدهم شعوبهم، ألم يعزل الخليفة الراشد الثانى قائد جيوشه «خالد بن الوليد» موليًا بديلًا عنه «أبا عبيدة بن الجراح» حتى لا يفتتن الناس بـ«خالد» ولا تكون انتصاراته عبئًا على خليفة المسلمين! وهو نفس المنطق الذى دفع الشعب البريطانى إلى إسقاط «ونستون تشرشل» بعد انتصاره فى الحرب العالمية الثانية حيث جاءوا بـ«كليمنت أتلي» زعيم حزب العمال قائلين: إذا كان «تشرشل» قد كسب الحرب فإن علينا أن نبحث عمن يكسب السلام.
ثانيًا: إن كل شىء يبدأ صغيرًا ثم يكبر إلا الحزن – الفردى والجماعى – فهو يبدأ كبيرًا ثم يصغر مع الوقت وقد تتلاشى آثاره مع مر السنين.. إنها سنة الحياة، وفطرة الوجود، وحكمة الخالق.
هذه خواطر ألحت عليّ وقد مر على ذهنى شريط الذكريات فبدأت أتذكر أيامًا لن تعود أبدًا!
جريدة المصري اليوم
25 سبتمبر 2018
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1326741