ترتبط المدن فى ذاكرتى- على امتداد العمر- بشخصية متميزة لكل منها، ولابد أن أعترف أننى وقعت أسير حب مدن معينة منذ الوهلة الأولى، ولعل مدينة «لندن» التى عشت فيها سنوات شبابى الباكر هى حبى الأول بعد وطنى الذى لا يعادله ولا يوازيه كيان آخر، وعندما ذهبت إلى «الهند» وزرت مدينة «سملا» اندهشت كثيرًا فكل المدن أفقية على الأرض أما «سملا» فهى مدينة رأسية على الجبال العالية حتى إن الصعود والهبوط يتمان بحبال يستخدمها البشر وينقل بها العمال البضائع، فالمدينة رأسية بالمعنى الحقيقى للكلمة، وعندما زرت «إسطنبول» فى المرة الأولى سحرتنى القباب والمآذن والقصور والمساجد والبسفور الذى يقسم المدينة والكوبرى المعلق الذى كان يبدو كمعجزة فى وقتها، حينذاك تداعت إلى ذهنى أحداث الخلافة الإسلامية ومظاهر العز والنعيم لدى سلاطين آل عثمان، وعندما زرت «باريس» لأول مرة منذ نصف قرن تقريبًا بهرتنى المدينة بأضوائها وصخبها وحيوية العلاقة بين الزمان والمكان والسكان فهى بحق (مدينة النور) التى يسعى الجميع لزيارتها، بينما «لندن» على الجانب الآخر تحتفظ بوقار خاص وشخصية متفردة فـ«لندن» مدينة لا تزورها فقط ولكن تعيش فيها أيضًا، ففيها رحابة تتسع لكل الجنسيات وكافة الديانات، فإذا كانت «باريس» هى عاصمة الثقافة ومدينة الفلسفة والآداب والفنون فإنك فى «لندن» تستطيع أن تحقق أهدافك مهما كانت فهى مدينة الدراسة الأكاديمية والسياحة الداخلية والمسرح التقليدى الذى لا يبدأ بـ«شكسبير» ولا ينتهى بأحدث روائى عالمى، وهى أيضًا مدينة العلاج الطبى والتسوق المتنوع ففيها تجد كل ما تريد، إنها مدينة الـ«هايد بارك» ومدينة شارع «أكسفورد» الشهير ومدينة «قوس النصر» الرخامى الذى يتوسط تلك العاصمة التى تلتقى فيها كل جنسيات الأرض بلا تفرقة أو تمييز، إنها عاصمة الآسيويين والأفارقة ودول الشرق الأوسط وملاذ طالبى الحرية ودعاة الأفكار المطاردة فى بلادها، وقد زرت مدنًا كثيرة تختلف درجات احترامى لها فقد عرفت المدن الهندية والمدن الصينية والمدن اليابانية، وعندما هبطت «موسكو» أول مرة أصابنى الذهول من حجم الأبنية السبع الكبرى التى تتألق بها المدينة ذات الشوارع الواسعة والمبانى الفخمة وقصر «الكرملين» يطل وسط الأضواء مذكرًا الجميع بأمجاد القياصرة وفكر «لينين» وجبروت «ستالين» وصولًا إلى شخصية «بوتين» القوية والتدريب الفريد الذى حازه نتيجة خبرته الطويلة رئيسًا لمكتب الاستخبارات الروسية فى «برلين»، وهناك مدينة ألمانية لا أنساها أبدًا هى مدينة «أخن» وتسمى بالفرنسية «إكس لا شابيل» وهى مدينة ترتبط بتاريخ القانون الدولى المعاصر واتفاقياته المبكرة، وأنتقل الآن للحديث عن مدينة قضيت فيها أربع سنوات كاملة ولكننى للأسف لم أقع فى غرامها وأقصد بها العاصمة النمساوية «فيينا» والحاصلة دائمًا على المرتبة الأولى أو الثانية فى النظافة والهدوء وغياب الضوضاء وانعدام التلوث وشعور الإنسان أنه أصبح معقمًا مع ندرة البشر واختفاء الزحام الذى تعودنا عليه فى بلادنا، ولا أنسى أبدًا بردها الشديد لأن المدينة منخفضة وتخضع لتيارات هوائية متضاربة تجعل كتل الثلج تصافح الوجوه بقوة، ومازلت أتذكر يوم السادس من يناير عام 1996 عندما كنت أهم بركوب سيارتى خارجًا من كنيسة الأقباط بعد المشاركة فى الاحتفال بعيد الميلاد، حيث كان الجو رهيبًا بمعنى الكلمة، أمطار تصب كالقرب ودرجة حرارة دون الصفر وثلوج تكسو زجاج السيارات حتى يتخيل المرء أن الطبيعة تكاد ترفض الحياة والأحياء، ولقد زرت دولة «المغرب» الشقيق عدة مرات وبدأت أدرك الفارق بين «الرباط» و«مراكش» و«فاس» و«مكناس» و«طنجة» و«الدار البيضاء» وغيرها من المدن التى تتميز كل منها بشخصية مختلفة، إنها تذكرنى أيضًا بالمدن الألمانية الكبرى، وقد صاحبت الرئيس الأسبق «مبارك» فى (زيارة دولة) لـ«ألمانيا» رأيت فيها - خلال عدة أيام - مدنها الكبرى من «بون» إلى «برلين» إلى «فرانكفورت» إلى «شتوتجارت» إلى «دوسلدورف» إلى «هامبورج» وآمنت وقتها بتميز الأمة الألمانية ونزعة التفرد لديها.. إن المدن كالإناث لكل منها وهج خاص، وجاذبية مميزة، وروح مختلفة، رحم الله «ابن خلدون» صاحب (المقدمة) ومؤسس العلاقة بين المجتمعات ومظاهر العمران، فالمدن منارات للبشر وعلامات على التقدم.
جريدة المصري اليوم
3 أكتوبر 2018
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1329027