تميزت علاقتى به صعوداً وهبوطاً، بالقرب والبعد، ولكن علاقتى بأخيه الأكبر «حسين أمين» كانت وثيقة، وعندما كنت أقوم بالتدريس فى الجامعة الأمريكية كان يصادفنى أستاذ الاقتصاد المرموق «جلال أمين» فنتحدث فى الأمور العامة، وكنت ألاحظ أن لديه عداءً متأصلاً ضد السلطة ومن معها، وكان ذلك يضع حاجزاً بينى وبينه أحياناً رغم احترامى له وتقديرى لمكانته العلمية والفكرية، وكنت أشعر أنه إذا كان هناك (مثقف دولة) و(مثقف سلطة) فإنه كان (مثقف الجماهير)، وحدثت بينى وبينه نادرة فى مطلع تسعينيات القرن الماضى أحدثت جفوة بيننا وجعلتنى حذراً فى التعامل معه، فعندما كنت مديراً لمعهد الدراسات الدبلوماسية (1993 – 1995) سعيت إلى تقديم كل الاتجاهات الفكرية والتيارات السياسية لأبنائى وبناتى من شباب الدبلوماسيين والدبلوماسيات، وكان من الصعب أن أتخطى اسماً بقدر وقيمة «جلال أمين»، فاتصلت به وقلت له: إننى أدعوك لإلقاء محاضرتين أو أكثر عن تطور الفكر السياسى والاقتصادى من عصر «عبد الناصر» حتى الآن، وكان رده مفاجأة لى، إذ قال: إنك تدعونى لأن لك ابنة تدرس عندى بالجامعة الأمريكية، وذلك لم يكن فى خاطرى على الإطلاق، ولكنه أضاف: هل تريد مجاملتى حتى أجامل ابنتك؟، فقلت له: مهلاً.. ما هذا الذى تقول؟!، إن ابنتى الصغرى «سارة» التى لا زالت تدرس فى الجامعة الأمريكية متفوقة ولا تحتاج دعماً منى أو منك، وهذا الأمر لم يخطر على بالى إطلاقاً، لذلك فإننى أعتذر عن توجيه الدعوة، وألعن حسن نيتى أيضاً!، وشكوت إلى زميلى الراحل «حسين أمين»، وقد كان شخصية رحبة للغاية، وأذكر أنه حضر لى ذات مرة محاضرة فى معهد الدراسات الدبلوماسية، وكان وقتها فى إدارة التخطيط السياسى المجاورة لمبنى المعهد، فإذا به يوجه تحية حارة لى ويقول: إن ملكة إلقاء المحاضرات ليست لدى كل الساسة والمفكرين، وأضاف- ولا زلت أتذكر ذلك جيداً- قوله: إن «أرنولد توينبى» لم يكن محاضراً ناجحاً رغم مكانته الفكرية ودوره فى فهم فلسفة التاريخ، كما أتذكر أننى دعوت «حسين أمين» بعد عودتى من بريطانيا وحصولى على الدكتوراة عام 1977 لزيارتى فى مسكنى المجاور له، وكنت آتيه بمجموعة نادرة من الكتب التى جلبتها من العاصمة البريطانية، فنظر إليها ساخراً وقال: إنها تعادل تقريباً ما كان فى مكتبتى وأنا طالب فى المرحلة الثانوية، فلقد كان- رحمه الله- ساخراً خفيف الظل عميق الفكاهة، وقد رأيت لديه مكاتباته مع السفير «ممدوح عبد الرازق»، وهما امتداد لأسماء عريقة تبدأ بـ«أحمد أمين»، المفكر المتميز وعميد كلية الآداب، والآخر سليل بيت «عبد الرازق» بمكانتهم المعروفة وقيمتهم الواضحة فى تاريخ مصر الحديثة، فهى الأسرة التى طوعت الثروة لخدمة الثقافة، وكانت الرسائل المتبادلة بين الشابين الدبلوماسيين نموذجاً من قطع الأدب الرفيع، وعندما أصدر «حسين أمين» كتابه الشهير (دليل المسلم الحزين فى القرن العشرين) اهتزت له المنابر واستقبله الناس بحفاوة، وعندما جرى تعيينه سفيراً لمصر فى الجزائر التقى بالسيد «طالب الإبراهيمى»، وزير الخارجية، وتحول اللقاء إلى جلسة أدبية وندوة فكرية تذكر فيها الاثنان طفولتهما، حيث كان الشيخ «الإبراهيمى» والد الوزير الجزائرى يعيش فى مصر الجديدة مخالطاً الأدباء المصريين والمفكرين الكبار من أمثال «أحمد أمين»، بقى أن أقول إن «جلال أمين» برغم كبريائه الواضح وحساسيته المفرطة لكرامته كان ابناً باراً لهذا الوطن، انحاز لأفقر طبقاته وأحب الرئيس الذى دعا إلى العدالة الاجتماعية، كما كان مدركاً بعمق للتطورات التى حدثت فى الشعب المصرى، نسيت أن أقول إننا كنا عائدين معاً منذ عدة سنوات على طائرة واحدة من مؤتمر فى شرم الشيخ، فإذا به يأتينى بتواضع شديد ويقول: هل نسيت التصرف الذى أزعجك منى؟، فقلت له: تقريباً، فقال لى: بل أريدها تماماً، فلقد كان رحمه الله صاحب قلب كبير، وعاطفة جياشة، وكبرياء لا ينحنى، ونفس تعلو فوق كل الصغائر.
جريدة المصري اليوم
9 أكتوبر 2018
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1331368