يراودني بين حين وآخر هاجس يلح علي خاطري مشيرا إلي الاختلاف الفكري الذي يعتري بعض الشخصيات ذات الثقل الثقافي وينقلها من اتجاه إلي نقيضه.
ومازلت أتذكر عندما كان يدرس لنا أستاذنا الراحل الدكتور محمود خيري عيسي تاريخ الفكر السياسي أنه كان يتخذ من الفيلسوف شيشرون نموذجا لتحول المفكر وفقا لمراحله العمرية المختلفة, وقد ظل هذا القياس لصيقا بذاكرتي عندما أتأمل التحول في المرجعية لدي بعض قادة الفكر في مصر الحديثة وأرقب تلك العملية لديهم نتيجة لأحداث عامة معينة أو تجارب ذاتية مؤثرة وأظل أرقب تلك القمم والتغير الذي طرأ علي مسارهاالفكري وسلوكها السياسي وأقول لنفسي إنها ظاهرة قديمة لاتبدأ بـ شيشرون ولا تنتهي بميلاد حنا وطارق البشري وهذان الاسمان الأخيران هما النموذجان اللذان أستعين بتاريخهما الفكري ومواقفهما السياسية لإيضاح وجهة نظري التي أسعي إلي الخروج بها من هذا المقال, فالأستاذ الدكتور ميلاد حنا هو أستاذ جامعي مهندس طوع الأسلوب العلمي في التفكير لخدمة مواقفه الفكرية وتأرجح بين العلم والفكر وتعاطي السياسة أيضا وكان دائما محسوبا علي اليسار المصري بمرجعيته العلمانية وأسهم إسهامات رائدة ورائعة في هذا السياق وظلت كتبه ومقالاته وأحاديثه ومحاضراته تعبيرا أمينا عن ذلك التوجه للصبغة اليسارية التي تؤمن بالدولة المدنية وتحفظ مسافة من الاحترام مع الكنيسة القبطية دون اقتراب شديد, إلي أن وقعت الواقعة عندما جمع الرئيس الراحل أنور السادات كل أطياف العمل السياسي المصري وكل ألوان الفكر المعاصر ضمن عملية الاعتقال الشهيرة في شهر سبتمبر عام1981 م قبيل اغتياله بأسابيع قليلة فقد كان يسعي ــ رحمه الله ــ إلي إسكات كل الأصوات حتي تتم المرحلة الثالثة من اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية, وقد أصاب د.ميلاد حنا ما أصاب غيره من الساسة والمفكرين والكتاب والمثقفين فجري اعتقاله في ظل ظروف طائفية مريبة أقدم فيها رئيس الدولة علي سحب اعترافها بخاتم بابا الأقباط مجردا إياه من صلاحياته الدنيوية غير قادر علي المساس بقيمته الروحية, ولقد خرج علينا د. ميلاد حنا من تجربة الاعتقال وقد انتقل من خانة اليساريين العلمانيين إلي خانة الأراخنة المحترمين,فلقد غلبت علي ذلك العالم المفكر منذ ذلك الحين مشاعره الطائفية وطفت علي السطح عقيدته الدينية وأصبح معنيا إلي حد كبير بالشأن القبطي باعتباره جزءا من هموم الوطن التي حملها د.ميلاد حنا علي كاهله سنين عمره فهو صاحب أعمدة الحكمة المصرية والإسهامات الرائعة في مجالات الهندسة والإسكان والفلسفة والسياسة والفكر والثقافة, ومازلت أتذكر حديثه في الكنيسة بالزمالك يوم رحيل الكاتب الصحفي فيليب جلاب وحرصه علي الوحدة الوطنية وتحويله الجنازة إلي مظاهرة سياسية التفت حولها قلوبنا جميعا مسلمين ومسيحيين, وأستطيع أن أميز بوضوح بين مرحلتين في حياة الدكتور حنا الأولي معنية بالشأن العام ولكن من زاوية جديدة تسللت إليها المشاعر الدينية الحبيسة والمعاناة التي نلحظها لدي الأقلية العددية في كل مكان من عالمنا المعاصر.
فإذا جئنا إلي النموذج الثاني وأعني به المستشار طارق البشري وهو سليل بيت علم ودين لايبدأ بالشيخ سليم البشري ولا ينتهي بالشيخ عبدالعزيز البشري وحدهما بل إن ذلك البيت العريق قد قدم للوطن شخصيات مرموقة كان منهم مشايخ الأزهر ورواد الأدب والقضاة الكبار والوزراء المسئولون عبرالمراحل المختلفة لتاريخ مصر الحديث, وفي ظني أن المستشار طارق البشري هو نموذج فريد لرجل القضاء الذي أصبح واحدا من ألمع المؤرخين المعاصرين وأكثرهم قدرة علي التحليل السياسي والثقافي والاجتماعي لمراحل تطورنا الفكري في القرنين الأخيرين, ومازلت أعترف أن الذي دفعني إلي اختيار موضوع أطروحتي للدكتوراه بجامعة لندن في مطلع السبعينيات من القرن الماضي حول( الأقباط في السياسة المصرية...مكرم عبيد نموذجا) أن الدافع وراء هذا الاختيار كان هو سلسلة المقالات الرائدة والرائعة التي نشرها الأستاذ طارق البشري وكانت علي ما أتذكر تحت عنوان أحمد والمسيح وكانت تلك المقالات كما أتذكر أيضا هي المادة العلمية لكتابه الشهير عن الجماعة الوطنية, ولقد استفدت كثيرا مما قرأت له وزاد احترامي بعدما قرأت عنه, وكانت مرجعيته في ذلك الوقت وطنية مصرية أقرب إلي اليسار منها إلي أي توجه آخر كما أن كتاباته كانت تنطلق من قاعدة علمانية يثريها فهم واسع للإسلام وإيمان عميق بمبدأالمواطنة مع تجرد وموضوعية عرف بهما طوال حياته الفكرية حتي أنني عندما أصدرت كتابي عن الأقباط في السياسة المصرية في مطلع الثمانينيات لم أجد أفضل من المستشار طارق البشري لكي يكتب لي مقدمته وكنت قد شاركته مع المستشار الراحل وليم سليمان قلادة في كتاب مشترك قدم له الدكتور بطرس بطرس غالي وصدر عن الأهرام عام1981 م تحت عنوان وطن واحد وشعب واحد, ولابد أن أعترف الآن أنني قد لاحظت في السنوات الأخيرة أن المرجعية التي يستند إليها ذلك المفكر الكبير قد طرأ عليها شيء من التغيير دفع بذلك المؤرخ الوطني والمحلل السياسي في اتجاه يختلف عن سنوات البداية فقد سيطرت علي كاتبنا الكبير نزعة إسلامية ــ وهذا أمر لا بأس به ــ بدأت تشده من الوسط في اتجاه الأطراف في تحول يكاد يكون مماثلا لذلك طرأ علي د. ميلاد حنا بالانتقال من الوسط إلي الطرف الآخر, وكنت أسأل نفسي دائما ياتري ماهو السبب في ذلك التحول الذي يحدث بالانتقال من مرجعية علمانية إلي مرجعية دينية تكاد تسيطر علي مناحي الحياة المختلفة فأصبحت كلمتا الحلال والحرام هما البديل الطبيعي لكلمتي قانوني وغير قانوني؟! ورغم علمي بما عاناه المستشار البشري والثمن الذي دفعه احتراما لمبادئه وفكره حتي أفلتت منه رئاسة مجلس الدولة ــ رغم جدارته واستحقاقه ــ فإنني أسوق هنا ملاحظات ثلاث هي:
أولا: إن التحول من اتجاه إلي آخر لا علاقة له إلا بالتغير الفكري والسلوكي وحدهما, فكم من مفكر مرموق أو عالم متميز ولكنه اختار طريقا في بداية حياته ومطلع شبابه يختلف بالتجربة الذاتية والمعاناة الإنسانية والتحولات المحيطة ليتحول إلي موقف آخر قد يختلف تماما عن الموقف الذي بدأ به ذلك الرائد الذي يمثل واحدا من قادة الرأي وأئمة الفكر, ويجب أن أشير هنا بوضوح لا لبس فيه إلي أن التحول الذي شعرت به من جانب بعض كبار المثقفين والمفكرين والذي اتخذت نموذجي حنا والبشري للتدليل عليه لا يمس من قريب أو بعيد مكانتهما الرائدة أو أمانتهما الفكرية خصوصا أنهما لم يكونا في يوم من الأيام من رموز السلطة أو حملة المباخر ومرددي الأناشيد بل إنهما كانا من البداية حتي النهاية إيقاعا وطنيا خالصا ورصيدا شعبيا لاخلاف حوله.
ثانيا: إن التحول الفكري ظاهرة بشرية طبيعية ترتبط بالتجارب التي تصقل صاحبها والخبرات التي تراكمت لديه فالإنسان ابن ظروفه كما أن فكره هو وليد المرحلة التي يمر بها لذلك فنحن لا نجرم التحول الفكري بل إننا نراه ظاهرة إنسانية طبيعية تستحق التقدير وتستوجب الإشادة.
ثالثا: ــ إنني أزعم ــ وقد أكون مخطئا ــ أن المناخ الاجتماعي والبيئة السياسية التي مرت بها مصر في العقود الأخيرة تقف بقوة وتؤثر بشدة في التحول الذي رصدناه في مسار نموذجيحنا والبشري فقد انتقلت مصر من الفكر الإصلاحي والليبرالية السياسية في العصر الملكي إلي التوحد الفكري مع الليبرالية الاجتماعية في العصر الناصري إلي أن اكتسحت حياتنا ظواهر التطرف الديني ــ وافدة علينا أو صادرة عنا ــ لكي تأتي معها بمناخ جديد وبيئة مختلفة يلعب فيها الدين دورا رئيسيا سواء كان ذلك في تشكيل الشخصية أو توجيه الانتماء أو فتح مسارات مختلفة أمام العقل المصري بحيث انحسرت مساحة الاعتدال وتراجعت مسافة التسامح وبرزت شواهد التعصب الديني والطائفية المقيتة والتشدد الكئيب والتزمت الأحمق وأصبحنا نفتش بين كبار مفكرينا عن من يأخذون بيد المجتمع المصري إلي مرفأ الإصلاح وشاطيء الأمان.
تلك قراءتي المجردة لقضية التحول الفكري واختلاف الانتماء السياسي وتغيير المرجعية الأساسية وقد اخترت لذلك نموذجين مرموقين خرجا من رحم الوطن الواحد ويمثلان نسيجه المشترك الذي لن يتمزق أبدا.
جريدة الأهرام
20 أبريل 2010
http://www.ahram.org.eg/Archive/142/2010/4/20/4/16559.aspx