يكتسب التعليم المصرى مكانة خاصة بسبب عراقته وقدم ظهوره واتساع تأثيره وانتشار النفع منه، إنه هو التعليم الذى قاد حركة التنوير فى المنطقة وأضاء المصابيح فى ظل الظلام الدامس عندما كان الأزهر الشريف مناراً للعلم والمعرفة فى العصور الوسطى، وكانت أروقته تستقبل الطلاب و«المجاورين» من أنحاء العالم الإسلامى، كما أن الكنيسة القبطية قد أسهمت هى الأخرى فى نشر التعليم المدنى فى أنحاء البلاد واستقبلت الطلاب دون تفرقة بين مسيحى ومسلم، حتى ارتبط ظهور الدولة المصرية الحديثة بالنهضة العلمية والريادة التعليمية، لذلك فإنه من المؤسف حقاً أن يتردى مستوى التعليم المصرى وتصبح بعض شهاداتنا المعتمدة لا تلقى الاحترام الذى تعودته ولا المكانة التى ارتبطت بها، ولعلنا نتذكر الآن أن «مدرسة الطب المصرية» و«مدرسة المهندسخانة» و«مدرسة الألسن» و«كلية دار العلوم» كانت هى وغيرها مراكز إشعاع مضيئة، وعندما ولدت «جامعة القاهرة» كانت هى أيقونة الشرق الأوسط كله فى وقت انتشرت فيه البعثات التعليمية المصرية فى المشرق العربى ودول الخليج، وتتابعت قوافل المبعوثين المصريين للدراسة فى جامعات الغرب ليعودوا حملة للواء التنوير فى المنطقة كلها، كما توافدت على «مصر» إرساليات تعليمية تحت غطاء دينى أو مدنى، إلى أن أتى على «مصر» حين من الدهر تراجعت فيه سمعتها التعليمية وتراجع معها تلقائياً دورها الإقليمى.
لهذا فإننى عندما أكتب اليوم عن محنة التعليم فإننى أضع يدى على الجرح الحقيقى لهذا الوطن الذى اشتهر تاريخياً بسماحة الحضارات واحتضان الثقافات والترحيب بالديانات، وها هو اليوم يعانى بسبب تدهور التعليم على نحو ينعكس على باقى قطاعات الدولة ومؤسساتها المختلفة ومرافقها المتعددة، وهو أمر يدعونا للتطرق إلى الملاحظات التالية:
أولاً: إن الصراع المعتاد بين نظريتى «الكم» و«الكيف» قد ترك بصماته بشدة على نظام التعليم المصرى، إذ إن الزيادة الهائلة فى أعداد القادمين إلى التعليم المصرى كل عام قد دفعت بـ«نظرية الكم» إلى المقدمة، بحيث تضم سنوياً مئات الآلاف من القادمين الجدد إلى فصول الدراسة، وتوارت تبعاً لذلك «نظرية الكيف»، فأصبح عدد المدارس وعدد الفصول وعدد المعلمين هو المؤشر الشائع للتعبير عن نجاح السياسة التعليمية، مع أن الأمر يختلف عن ذلك تماماً، فلقد كانت زيادة الكم خصماً طبيعياً من نوعية الكيف، فتدهورت العملية التعليمية ولم تعد تملك لوازم استمرارها! فالمدارس بلا ملاعب ودون فرق فنية غالباً مع ضعف فى الوظيفة الاتصالية مع المجتمع وهيئاته المدنية.
ثانياً: إن السلسلة الذهبية لجيل الرواد، بدءاً من «رفاعة الطهطاوى» و«على مبارك»، وصولاً إلى «طه حسين»، و«إسماعيل القبانى» هى تعبير عن التواصل بين الأجيال ارتباطاً بقضية واحدة وهى قضية النهضة التى تنبثق عن النظام التعليمى الرشيد والفكر التنويرى النهضوى الذى ارتبط دائماً بحركة صعود الدولة، والمضى قدماً على طريق الاستنارة والحداثة والتقدم، فالتعليم هو المفتاح لكل الأبواب، والتحكم الإيجابى فى العملية التعليمية يؤدى بالضرورة إلى بلوغ الغايات التى تنشدها الدولة بدءاً من البحث العلمى، وصولاً إلى التشغيل، مروراً بالثقافة والتألق الفكرى والوهج المشع الذى ينطلق من المواهب المطمورة والإمكانات الخفية لدى الأجيال الجديدة.
ثالثاً: لقد قال أصحاب التجارب النهضوية الكبرى إنك إذا أردت أن ترتقى بشعب معين فإن عليك أن تقتحم ميدان التعليم برؤية بعيدة ووعى عصرى يدرك ما يدور فى عالمنا الذى يقذف بالمستجدات كل يوم، حتى إن بعض الاختراعات الجديدة لا تجد فرصتها فى التطبيق، لأن اختراعات أخرى تسبقها وتتقدم عليها بفعل الإيقاع السريع لحركة الكشوف العلمية والاختراعات التكنولوجية، وإذا كانت التكنولوجيا هى توظيف العلم فى خدمة الصناعة فإن التعليم يظل رافداً أساسياً فى توجيه المجتمعات إلى الأفضل، ولم نشهد تجربة وطنية ناجحة إلا بالاعتماد على التعليم الذى هو قاطرة التقدم وعصب التنمية، ولو طبقنا ذلك على الحالة المصرية لاكتشفنا مرة أخرى أن تدهور النظام التعليمى هو المسؤول عن كثير مما أصابنا من إحباطات وأزمات ومشكلات بل ونكسات أيضاً!
رابعاً: لقد تحول التعليم المصرى إلى مظهر عام يفتقر إلى الجوهر، وأضحت العملية التعليمية شكلاً بلا مضمون، التركيز فيه ينصب فقط على الظفر بشهادة، وهى وثيقة شكلية لا تعبر عن الواقع، ولكنها تستهدف الغرض الاجتماعى منها، وصدق الفنان المسرحى عندما قال (بلد شهادات)! إذ ليس يعنى المصريين ما يحمله العقل من معارف وما يقوده من تأثير للضمير الجمعى للناس، ولكن المهم فقط هو تزيين البطاقة الشخصية بالشهادات العلمية وألقابها المختلفة وكأنها لافتات نرفعها بغض النظر عن قيمة العلم والمعرفة وسلامة التعليم وجودة الأداء.
خامساً: إن نظرة شاملة لمشهد التعليم المصرى الحالى لابد أن تشعرنا بالقلق الشديد، لا على التعليم وحده ولكن أيضاً على درجة الانصهار الاجتماعى والانسجام البشرى بين فئات الشعب، فالجندية والتعليم هما المصدران الرئيسان لوحدة الأمة، والحمد لله أن الجندية بخير وبمساواة كاملة ودون تفرقة أو تمييز، أما التعليم فحدث ولا حرج! مدارس أجنبية وأخرى مصرية، تعليم دينى وتعليم مدنى، مؤسسات علمية ذات طابع استثمارى وأخرى حكومية تعانى من نقص شديد فى الموارد والإمكانات، وهذه التعددية فى مدخلات العملية التعليمية تؤدى فى النهاية إلى تشويه المجتمع المصرى ووجود أكثر من مصر واحدة نتيجة التقسيم الذى صنعه النظام التعليمى المرتجل، والذى لابد أن يؤدى فى النهاية إلى وجود صراع طبقى مكتوم قابل للانفجار أمام أى مشكلة عابرة.
إننى أرفع صوتى مع غيرى، وأدق ناقوس الخطر قائلاً: التعليم.. التعليم.. التعليم.. إنه سبيل الخلاص وطوق النجاة وصانع الرؤية إلى المستقبل الذى نريده لأجيال قادمة ربما لايزال بعضها فى ضمير الغيب!.
جريدة المصري اليوم
24 يناير 2017
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1077744