لايختلف اثنان علي القيمة الفكرية والثقافية والأخلاقية للمستشار طارق البشري فهو ينتمي إلي بيت علم ودين كما ظل طوال حياته شامخا لا يلين.
وقد اقتربت منه وتأثرت به واستقر في وجداني تقدير كبير له واحترام شديد لشخصه، وليسمح لي وقد تأثرت بكتابه الشهير عن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر منذ أن كانت فصوله مقالات في مجلة الكاتب وهي دورية ثقافية يسارية الطابع أطاح بها من كانوا لا يريدونها منذ عدة عقود ـ وهو الذي كتب مقدمة كتابي عن الأقباط في السياسة المصرية فزاده قيمة وأكسبه مكانة، ليسمح لي أستاذنا بأن أختلف معه في موضوع التزيد الواضح عند تعقب سلامة الجنسية المصرية لمرشحي الرئاسة، مع تسليمي بأن ذلك شرط لا يختلف عليه اثنان، فالرئيس يجب أن يكون مصريا خالصا لا تشوبه شائبة علي نحو لا يؤدي إلي تعارض المصالح واصطدام الإرادات وأن يكون من أبوين مصريين أيضا ولكن الذي يعنيني هنا هو مسألة تعقب الجنسية بالاكتساب للوالدين وأقرباء الدرجة الأولي خصوصا وأن ذلك قد أصبح سيفا مسلطا علي رقاب بعض المرشحين وثغرة تتسرب منها الطعون دون سند من الحق والقانون بل وعلي نحو قد تجاوز ماهو معمول به في معظم دساتير الدول الأخري وشروطها فيمن يترشح لذلك المنصب الرفيع، وأنا أوافق أستاذنا طارق البشري بغير جدال في أنه إذا كانت مثل هذه الشروط تطبق علي الدبلوماسي الشاب أو الضابط الصغير وبعض المناصب القضائية الرفيعة فإن الأجدي والأولي أن تنطبق شروط أكثر دقة وأشد إحكاما فيما يتصل بمنصب رئيس الجمهورية، ولنا هنا بعض الملاحظات نضعها بين يدي أستاذنا ورفاقه من جمهرة فقهاء القانون علي الساحة المصرية الآن:
أولا: إننا لا نختلف مع كل الشراح الذين وقفوا أمام جنسية الشخص وأبويه شريطة أن يكون المقصود بذلك هو الجنسية الأصلية وليست المكتسبة فيما يخص الأبوين علي الأقل، أما الشخص المرشح لذلك المنصب الرفيع فلا يمكن أن تشوبه شائبة ولو بحصوله علي جنسية بالاكتساب، وقد رأي البعض من خبراء الجوازات والجنسية أن حمل جواز سفر لدولة معينة لا يعني بالضرورة أن يكون حامله متمتعا بجنسيتها، فالجنسية انتماء بينما حمل جواز السفر يمكن أن يكون مسألة وقتية طلبا للجوء سياسي أو سببا لتيسيرات إدارية ومعاملة أفضل من الناحية الإجرائية، نعود مرة أخري لنؤكد أن المرشح لرئاسة الدولة يجب أن يكون مصريا خالصا لا تشوبه شائبة كما أن أبويه يتمتعان بها إلا إذا كان أحدهما قد اكتسبها لظرف خاص وقد نمي إلي علمي أن والدة المرشح الذي جري إقصاؤه قد حصلت علي الجنسية قبيل وفاتها طلبا للعلاج الطبي وتفاديا لنفقاته الباهظة علي القادمين إلي الولايات المتحدة الأمريكية وهنا يجب أن يقف المشرع وقفة عادلة تفرق بوضوح بين من كانت جنسية أبويه الأصلية غير مصرية وبين من يكتسبونها لأسباب لوجيستية.
ثانيا: قال تعالي في محكم تنزيله ( وإبراهيم الذي وفي ألا تزر وازرة وزر أخري) فلا يمكن أن أعاقب شخصا بسبب تصرف لأحد أبويه مثل حيازة الجنسية من دولة أجنبية ـ وهو أمر قد يحدث بغير إرادة الشخص ذاته ـ وهل يمكن أن نعاقب مرشحا لمجرد أن له شقيقا يحمل جنسية دولة أجنبية اعتمادا علي أحاديث مرسلة وأقوال غير موثقة؟ إنني أري أن التزيد في موضوع الجنسية والحصول عليها أمر مطلوب لأنه من ضوابط التوصيف الوظيفي للمنصب الرفيع، ولكنني أطالب وبوضوح بضرورة التفرقة بين من يحمل جنسية أصلية ومن اكتسبها من الأبوين والإخوة والأخوات والزوجات، وفي ظني أن حرمان مكتسب الجنسية الأجنبية من التقدم للوظائف السيادية هو أمر يحتاج إلي إعادة نظر خصوصا إذا أبدي استعداده للتنازل عنها علنا.
ثالثا: لقد تابعت بشغف أطروحة متميزة للحصول علي درجة الدكتوراة تقدم بها اللواء عادل عفيفي رئيس مصلحة الهجرة والجوازات والجنسية منذ عدة سنوات وهو الآن رئيس حزب سلفي ووكيل للجنة حقوق الإنسان في البرلمان المصري، ولقد كتب الدكتور عادل عفيفي في أطروحته مدافعا بالدليل والحجة عن حقوق مزدوجي الجنسية في عضوية البرلمان إذ يكفي أن نتأمل البرلمانات الأوروبية لنجد من بين أعضائها من حصلوا علي جنسية تلك الدول بالاكتساب فقط! فما بالك بمن لا تزال جنسيته مصرية وإن كان قد أضاف إليها؟! ويعتمد الدكتور عفيفي في رأيه علي روح قانون الهجرة المصري وما كفله من حقوق لمن هاجر وعاد وليس من حصل فقط علي جنسية دولة أخري دون إجراءات هجرة كاملة! وإذا كنا نتحدث عن قضية الولاء لمزدوجي الجنسية فإن تجربتي الشخصية سفيرا لبلادي في العاصمة النمساوية علمتني أن المصريين في الخارج أشد عاطفة وأكثر اقترابا من الوطن أحيانا ممن يقيمون فيه!
رابعا: لقد حسم الدستور الأمريكي القضية برمتها فجعل معيار المواطنة الكاملة مستمدا من موقعة المولد علي الأرض الأمريكية دون غيرها، ولقد حرم هذا الشرط رجلا بحجم هنري كسينجر صاحب العقلية المتوهجة ـ مهما اختلفنا معه ـ من الوصول إلي البيت الأبيض، فلم تحجبه لا يهوديته ولا جنسية أبويه الألمانية ولكن لأنه لم يولد علي أرض أمريكية! ولماذا نذهب بعيدا؟ إن والد باراك أوباما قد هبط الولايات المتحدة الأمريكية في مطلع الستينيات فقط ثم أصبح ابنه اليوم رئيسا لأكبر دولة في العالم!
.. إنني لا أكتب هذه السطور دعما لأشخاص بعينهم أو مساندة لأجندة بذاتها كما أنني لم أحمل جنسية غير المصرية في حياتي ولن أحمل غيرها حتي الممات، ولكن الحق أحق أن يتبع لذلك أقول كلمتي مجردة من أي هوي إلي أن تستقر لدينا مبادئ ثابتة وأفكار واضحة ورؤي شاملة، وأختتم مقالي بتحية ذلك القاضي الفاضل والمؤرخ العميق والقانوني المخضرم المستشار طارق البشري الذي رفض ـ ذات يوم ـ طلبا لرئيس الدولة في النظام السابق تمسكا منه بمبدأ واحتراما لقانون، وكنت علي ذلك من الشاهدين!
جريدة الاهرام
16 ابريل 2012
http://www.ahram.org.eg/Archive/871/2012/4/16/4/143941.aspx