مازلت مصممًا على أن أكبر الخطايا فى الدولة المصرية هى انعدام التوظيف الأمثل لمواردها البشرية، التى تتمتع فيها بنصيب وافر من أصحاب الكفاءات والخبرات فى كافة المجالات، وكما أن هناك إهدارا لـر«مياه النيل» كمورد طبيعى، فإن هناك إهدارًا آخر للكفاءات كمورد بشرى، ولا أظن أننا سوف نستطيع التحليق إلى أعلى من خلال مشروع قومى، مهما جرى الإعداد له والإصرار على تحقيقه إلا إذا تمكنا من رصد مواردنا البشرية رصدًا مباشرًا يسمح لنا بتحقيق أعلى معدلات الاستخدام الإيجابى لهذه الثروة الهائلة من البشر، فالإنسان هو الإنسان فى كل زمان ومكان، ولكن الخلافات تبدأ فى كيفية استثمار هذه الثروة، التى يمكن أن تكون دافعًا إلى الأمام وليست عبئًا يشدنا إلى الوراء، فلننظر إلى دولة المليار ونصف المليار نسمة، وأعنى بها «الصين» وكيف أنها تكاد تسيطر على مفاصل الاقتصاد العالمى وتتحرك بإصرار وبراعة فى مجالات مختلفة وتفرض وجودها على الأسواق العالمية، بدءًا من السوق الأمريكية ذاتها، إن ذلك يعنى ببساطة أن القدرة على توظيف الكم البشرى هى التى تضع الدول فى المكان الذى تستحقه، ولقد علمت مؤخرًا أن أكثر من مليون شاب وفتاة من «أوروبا» يدرسون حاليًا اللغة الصينية، بل إن رجال الأعمال فى الغب قد أصبحوا يحذرون ورثتهم بأنهم لن يتركوا لهم ما يتوقعون إلا إذا تعلموا اللغة الصينية، باعتبارها لغة المستقبل، ولقد حقق الهنود أيضًا- لأكثر من مليار نسمة- بعضًا من ذلك واستطاعوا التواجد على ساحة الخدمات ومجالات الحرف المختلفة فى دول العالم، نتيجة التركيز على العنصر البشرى الذى يمثل المورد الحقيقى لها، ونحن هنا فى «مصر»، وربما فى دول عربية أخرى، لم ننجح فى شىء من ذلك، بل استسلمنا لعملية تجريف متواصل للكفاءات، إلى جانب إجراءات أخرى تؤدى إلى استبعاد الخبرات، حتى هجر كثير من علمائنا وأصحاب القدرات العالية فى بلادنا وطنهم، الذى تعلموا فيه وأنفق عليهم ثم أصبح عطاؤهم لدول أخرى استقبلتهم واحتضنتهم بعد أن استكملوا مقوماتهم العلمية على أرضنا، وفى جامعاتنا وبأموال شعبنا، ولذلك فإننى أتساءل لماذا يبرع المصريون فى مجالات مختلفة خارج الوطن؟!، ربما لأن البيئة الثقافية والمناخ العلمى يسمحان لهم بذلك، ولكننى أضيف عاملًا آخر وهو شعور الفرد بقيمته وإحساسه بمكانته، خصوصًا أن العلم لا وطن له، ولكن للعلماء أوطانهم التى يجب أن يفعلوا من أجلها ما يعتبر ردًا لجميلها وتأكيدًا للارتباط بها، وأنا أكتب هذه السطور الآن لكى ألفت النظر لأهمية العامل البشرى لدولة مثل «مصر»، التى تعتبر الإنسان فيها هو أغلى استثماراتها، كما أنه يمثل (الميزة النسبية) على الساحتين المحلية والإقليمية، وليس من شك أن ذلك العامل البشرى يحتاج إلى التعليم الجيد والتثقيف المستمر والتدريب المتواصل، وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لعلمائنا فإنه ينطبق أيضًا على مفكرينا، الذين يمثلون مجموع النخب التى تقف فى مقدمة الصفوف تأثيرًا وتنويرًا وريادة، وهم الذين يتحملون العبء الأكبر فى تشكيل رؤية المستقبل، ولذلك فإن أولئك الذى يقفون على شريط الحدود بين العلم والفكر هم الذين يتحملون المسؤولية الكبرى فى صياغة المستقبل وتحديد ملامحه، ونحن فى «مصر» محتاجون إلى صيغ جديدة فى التعامل مع الواقع الصعب الذى يحيط بنا والتحديات الكبيرة التى تطاردنا لأننا بلد- بحكم التاريخ والجغرافيا- محط الأنظار ومصدر الأطماع ومبعث التأثير الدائم فى الحياة والمستقبل، ويكفى أن نتذكر أن من عجائب «مصر» ألا تكون الديمقراطية فيها دائمًا فى أفضل حالاتها، ومع ذلك تتمتع بأن لديها رأيًا عامًا قويًا يستطيع أن يؤثر فى محيطه العربى وفضائه العالمى، لذلك فإننا نقول ونكرر دائمًا إن مسؤولية العلماء تلتحم مع مسؤولية قادة الرأى من المفكرين والرواة والشعراء والفنانين فى منظومة واحدة تشد الوطن إلى الأمام وترتقى به حتى يحلق فى آفاق تستحقها الكنانة.
جريدة المصري اليوم
12 ديسمبر 2017
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1231059