إن الديمقراطية سلوك وممارسة وليست شعارات طنانة أو كلمات رنانة إذ أنها تتوقف بالدرجة الأولي علي المناخ السياسي والبيئة الثقافية اللذين يؤثران مباشرة في مكونات العقل الجمعي داخل البلد الواحد.
ورغم أن الديمقراطية لها قواعد أساسية وشروط متفق عليها تعتمد علي سيادة القانون وترتبط بمبدأ الأمة مصدر السلطات وعلي نحو يكرس تداول السلطة ودوران النخبة.
كما يجب أن تمضي الديمقراطية مع عملية التنمية الناجحة علي جبهة عريضة تربط بين الاقتصاد والسياسة، إذا كان ذلك هو المفهوم العصري للديمقراطية فإن الانتخابات هي أداتها وآلية تحقيقها ونحن نعترف هنا بأن صندوق الانتخابات لا يفرز بالضرورة الأفضل ولكنه يقدم الأحق وفقا لإرادة الناخبين وتعبيرا عن رغبتهم فيمن يأتي إلي السلطة أو ينوب عن الشعب، ونحن نقرر هنا بوضوح أن الآليات وحدها لا تكفي إذ يمكن أن يكون لدينا ضوابط ومعايير إلا أنها لا تحقق الهدف بالضرورة فالمعيار الثقافي أساسي ومهم في إنجاح العملية الديمقراطية فالأمية مثلا تنتقص من أهمية التحول الديمقراطي كما أن الفقر يمكن أن يكون أحد المعوقات لنزاهة الانتخابات وإن كان النموذج الهندي الضخم الذي يمثل أكبر الديمقراطيات في العالم المعاصر يمكن أن يقدم لنا تفسيرا مختلفا فالفقر في الهند ظاهرة والأمية مسيطرة ومع ذلك فإن الهنود قد حققوا إنجازا مشهودا علي صعيد الديمقراطية والمشاركة السياسية وتمكنوا من أن يقدموا تجربة رائعة تفتقدها شعوب أخري في عالمنا المعاصر، ولذلك فإننا نريد أن نستخلص الملاحظات التالية:
أولا: إن الإسلام يقدم طرحا خاصا لنظرية الشوري وهو الأمر الذي أدي إلي توقف المسلمين طويلا أمام مفهوم الديمقراطية الغربية، ولقد كان أستاذي الذي أشرف علي أطروحة الدكتوراة فاتيكيوتس بجامعة لندن يجادلني دائما حول تأثير الإسلام في قضية الديمقراطية ويقول إن لديكم نظرية الشوري ولا تستطيعون تطبيقها، وفي ذات الوقت لا تتحمسون للديمقراطية الغربية لأسباب تراثية وثقافية فلا أنتم استطعتم أن تأخذوا بما تملكون ولا نجحتم في أن تستوردوا ما تميز به غيركم وكان يستفزني دائما بأن يقارن بين الهند وباكستان حيث كان يري أن الهند أصبحت أكبر ديمقراطية في العالم بينما تعاني باكستان من الديكتاتورية العسكرية والانقلابات المتكررة مؤكدا أن الإسلام في باكستان هو العقبة أمام الديمقراطية رغم أن كلا من الهند وباكستان خرجتا من أصل واحد ثقافيا وتاريخيا!
ثانيا: إن النظام الحزبي في مصر ضعيف تاريخيا لأسباب قد يطول شرحها ربما يكون في مقدمتها قوة الدولة المركزية والإدارة الحكومية فضلا عن حرص المواطن المصري علي أن يكون تحت مظلة السلطة قدر ما يستطيع، ولا نكاد نتذكر حزبا شعبيا في تاريخ مصر باستثناء حزب الوفد في الفترة الليبرالية (19 ـ1952) ولعل ضعف النظام الحزبي هو الذي يتحمل جزءا من مسئولية تراجع المشاركة ونقص الكوادر وانعدام التربية السياسية بما يمهد للعمل السياسي الذي يصل إلي الدولة الديمقراطية الحديثة، وعندما نتحدث عن إمكانية الأخذ بالنظام البرلماني في مصر فإننا نصطدم بضعف الأحزاب السياسية وقصور اندماجها في الشارع المصري.
ثالثا: إن الذين يعرفون التركيبة السكانية لمصر يدركون أن المشاركة في الانتخابات والاهتمام بالصناديق تتركز أكثر في قري الريف ومراكز المحافظات والأحياء الشعبية، فالفقراء يصوتون في الانتخابات أكثر من غيرهم لذلك تعكس نتائج الانتخابات البرلمانية سطوة المال وتأثير الدين بل وآثار ما نسميه بالبلطجة السياسية وسط مجتمع أغلب سكانه يعيشون تحت حزام الفقر، فكيف نطالبهم بسلوك ديمقراطي ونحن ندرك أن الأمعاء الجائعة لا يفكر أصحابها في الحرية والدستور والمشاركة السياسية لأن لهؤلاء البشر أولويات تتعلق بحياتهم اليومية أكثر من ذلك الترف الفكري الذي لا يقدرون عليه.
رابعا: إن تجربة الانتخابات الجزائرية في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ثم الانتخابات الفلسطينية التي فازت فيها حركة حماس هما مؤشران أساسيان يعكسان أهمية احترام نتائج الصندوق مهما تكن، فلقد دخلت الجزائر حربا أهلية راح ضحيتها مئات الألوف نتيجة إجهاض ما أسفر عنه الصندوق والتنكر لنتائجه، لذلك فإنني أخاطب المصريين جميعا ـ أبناء وطني داعما إلي ضرورة احترام النتائج مادامت الانتخابات نزيهة ولم تعلق بها شوائب تنال منها إذ أن مستقبل هذا الوطن محكوم بنتائج هذه الانتخابات إلي حد كبير لأنها تجربة غير مسبوقة في تاريخنا الوطني كله وسوف تكون مؤشرا واضحا للمستقبل كما أنها سوف تمثل رسالة للخارج الذي ينظر إليها كواحدة من أهم نتائج ثورة 25 يناير.2011
خامسا: إن انقسام القوي السياسية في مصر قد أثر بالتأكيد علي مسار العملية الانتخابية إذ أن المعسكرين الديني والليبرالي إذا جاز التعبير ـ قد انقسم كل منهما علي نفسه بما أدي إلي متغيرات جديدة هي التي أفرزت النتيجة النهائية لتلك الانتخابات وما ارتبط بها ونجم عنها من معارك جانبية وخلافات حتي داخل الطائفة الواحدة كما أن الرفض المسبق من بعض مرشحي الرئاسة للنتيجة إن لم تكن في مصلحتهم هو عدوان علي فلسفة الديمقراطية وأمر يثير الدهشة خصوصا وأننا بصدد مخاض جديد لحياة سياسية مختلفة ربما لم تشهدها مصر الحديثة من قبل.
.. تلك قراءة فاحصة لملف معقد يقوم علي فكرة محددة وهي أن الظروف المحيطة بصندوق الانتخاب أهم من الصندوق ذاته، فالعملية الانتخابية ليست عملية صماء ولكنها تقوم علي جو سياسي ومناخ ديمقراطي هو الذي يسمح بالحديث عن الدولة العصرية في بلادنا بكل ما تحمله من دلالات إيجابية لوطن عاني طويلا من حكم الفرد وشيوع الفساد وضعف البني الدستورية والحزبية إلي جانب انعدام مصداقية البرلمانات السابقة وغياب التمثيل الحقيقي للقوي الموجودة فعليا في الشارع، لذلك حان الوقت الذي نؤكد فيه أن مصر تتجه نحو استكمال البنية الأساسية للتحول الديمقراطي الحقيقي الذي يعتبر سلوكا بشريا قبل أن يكون معركة سياسية.
جريدة الاهرام
28 مايو 2012
http://www.ahram.org.eg/Archive/913/2012/5/28/4/152081.aspx