لم يكن «خالد محيى الدين» مصريًا عاديًا، بل كان شخصية استثنائية بجميع المعايير، فتاريخه السياسى الناصع يؤكد طهارته الثورية ونقاءه الوطنى ويضعه فى منزلة خاصة ربما لم يتمتع بها فى «مصر» سواه على امتداد النصف الثانى من القرن العشرين، فقد تمسك الرجل بمبادئه ودفع ثمن مواقفه، وانحاز دائمًا للفقراء وانتصر للطبقات الكادحة، وكانت (يساريته) ذات لون خاص تسبقها وطنية صافية ويلحق بها إيمان عميق برسالات السماء، أُعجب به «عبدالناصر» كثيرًا فى البداية حتى سمى أكبر أبنائه على اسمه، ولكن لم تكن علاقته بـ«السادات» جيدة، إلا أن الرئيس الأسبق احتفظ بخيط رفيع معه احترامًا لتاريخه وتقديرًا لمكانته، وهو ابن بيت عريق لا يخلو من مسحة دينية كما لا يبتعد كثيرًا عن الثراء وبحبوحة العيش، لقد كانت مواقفه بعد ثورة يوليو 1952 تأكيدا جازما لانحيازه للديمقراطية ودفاعه عن الحرية حتى جرى نفيه إلى «سويسرا» لعدة سنوات، ثم عاد ليلحق بركب العمل العام فى الصحافة والكتابة مع نشاط دؤوب فى التجمعات الدولية المتصلة بحركة السلام والمرتبطة بموجة التحرر الوطنى فى «آسيا» و«أفريقيا»
ولقد ظل خالد محيى الدين قابضًا على مبادئه متمسكًا بأفكاره حتى أسس «حزب التجمع»، الذى ضم صفوة من العقول المصرية ذات الانتماء اليسارى، ولكن الأهم من ذلك كله كان هو زهده فى المناصب وابتعاده عن السياسات (الديماجوجية) والأفكار المتطرفة، فكان محل احترام فى كل مكان، ولقد اقتربت شخصيًا منه لعدة سنوات عندما كنت رئيسًا للجنة العلاقات الخارجية فى مجلس الشعب المصرى، وكان هو عضوًا فى تلك اللجنة، كما وافق على السفر لحضور مؤتمرات برلمانية تحت رئاستى مع أنه كان قد وضع شرطًا- مسبقًا- بأنه لن ينضم لوفد برلمانى إلا إذا ترأسه رئيس المجلس أو وكيله على الأقل، وقد مكنتنى صلتى الطيبة به من أن أتعرف على شخصيته الرائعة فى سنوات عمره المتقدمة، فضلًا عن اكتشاف سماحته وثقافته وسلامة منطقه، ولقد كان «خالد محيى الدين» عازفًا عن المناسبات العامة والاجتماعات الرسمية وربما كان السبب فى ذلك أنه هو الوحيد من أعضاء مجلس قيادة الثورة الذى لم يحصل على قلادة النيل، وبالتالى كان ترتيبه فى البروتوكول المصرى متأخرًا عن زملائه، وقد ظل ذلك الأمر واحدًا من مظاهر نضاله المستمر وإيمانه الدائم بأن قيمته تنبع من ذاته ولا ترتبط بمنصب أو درجة، ولقد حكى لى كثيرًا عن ذكرياته فى السنوات الأولى لثورة يوليو 1952 وعلاقاته بزملائه من الثوار، وكان دائمًا عف اللسان، هادئ الطبع، مرتب التفكير.
وقد أصدر كتاب مذكراته منذ عدة سنوات، حيث صاغه رفيقه الراحل الدكتور «رفعت السعيد» الذى كان يكن له هذا المناضل الكبير كل الاحترام والتقدير، ولسوف يتذكر المصريون دائمًا، بدءًا من أبناء «كفر شكر»، مرورًا بكل المنتديات السياسية والساحات الوطنية، أن مناضلًا عظيمًا قد عبر على تلك الأرض الطيبة فى رحلة عمر سخية ترك فيها بصمات فى السياسة والصحافة والثقافة، بل والأدب والفن، ولقد شهدت حفل تكريمه فى نقابة الصحفيين منذ عدة سنوات ورأيت كيف كان دائمًا هو «خالد محيى الدين» المتماسك الصلب المدافع عن قضايا أمته والمرتبط بمشكلات بلده، والعجيب أنه قد رحل بعد شقيقه الأصغر د. «عمرو محيى الدين» ببضعة أسابيع، وبعد رفيق دربه د. «رفعت السعيد» بعدة شهور، وبذلك تساقط جيل كامل من بيت «محيى الدين»، فقد رحل الدكتور «فؤاد» والسيد «زكريا»، وها هو السيد «خالد» يغلق ملف جيله مشيعًا بدعوات مواطنيه الذين يدركون أن أحد الجنود البواسل من المدافعين عن قضية العدالة الاجتماعية قد طوى أوراقه واستأذن فى الرحيل.. رحم الله مناضلًا من طراز فريد ومواطنًا شريفًا غادرنا على غير موعد ثم مضى إلى رحاب ربه، تاركًا لنا إرثًا فكريًا وسياسيًا وثقافيًا لا ينضب معينه، ولا يختفى تأثيره، ولا تتوارى شموسه.
جريدة المصري اليوم
9 مايو 2018
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1288960