مازلت أذكر ذلك اليوم منذ ستة وأربعين عامًا عندما رحل «جمال عبدالناصر» عن عالمنا، فى الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1970، ولى مع خبر رحيل الزعيم ذكريات أمسية لا أنساها، فقد رحل على غير توقع بعد قمة عربية مصغرة حقن فيها الدماء وفرض- بمكانته ودور «مصر» فى تلك الأيام رغم جراح النكسة وآلام هزيمة 1967- تسوية عاجلة بين الفلسطينيين و«المملكة الأردنية»، بعد أحداث «جرش» ومعارك «أيلول الأسود»، وبذلك حافظت «مصر» على دماء أشقائها من الجانبين، وفرضت حماية عربية على المقاومة الفلسطينية.
نعم لم يكن هناك من يتوقع رحيل «عبدالناصر» بهذه السرعة، وهو فى الثانية والخمسين من عمره، رغم أننا كنا نعلم أن قلبه عليل، وأن «داء السكرى» ينهش جسده، وقد ارتبطت الأيام الأخيرة فى حياته بحدث شخصى مهم فى حياتى على الجانب الآخر، حيث تزوجت قبل رحيله بعشرة أيام فقط!
وفى مساء يوم وفاته، كنت قد اتفقت أنا وزوجتى كعروسين مع زميل عزيز من أصدقاء السلك الدبلوماسى، كان قد تزوج هو الآخر فى نفس الفترة، على أن نلتقى نحن الأربعة فى مطعم وكازينو شهير وقتها بحى الزمالك كان اسمه «سولت آند بيبر» (مطعم وكازينو سيكويا حاليًا)، على رأس جزيرة الزمالك، مطلًا على «النهر الخالد»، وقد وصلنا إلى المكان فى الثامنة مساءً وأذهاننا خالية تمامًا من أى احتمالات لأحداث سياسية بعد أن علمنا أن مؤتمر القاهرة قد نجح، وأن الأزمة الفلسطينية- الأردنية قد انفرجت، وكان آخر مشهد رأيناه على شاشات التليفزيون هو مشهد «عبدالناصر» مودعًا أمير الكويت فى مطار القاهرة إيذانًا بانتهاء الأزمة فى وقت كانت اللقاءات العربية مازالت قادرة على تحقيق نتائج تؤثر على المنطقة وشعوبها.
أعود إلى ذلك المطعم والمقهى الذى وصلنا إليه، لنشعر نحن وكل الموجودين بأجواء تتميز بالصمت المريب والخدمة المحدودة، وفى التاسعة مساءً خرج إلينا مدير المطعم، وكان رجلًا بدينًا أذكر ملامحه جيدًا، وقال: يا حضرات نعتذر عن استكمال السهرة لأن الريس مات! ووقر فى ذهننا جميعًا أنه يقصد «الشيف» أى رئيس الطهاة، أو صاحب المكان، فانبريت من بين الحاضرين وقلت له: لماذا إذاً قبلتم الحجز لنا وبقاءنا طوال ساعة كاملة، وكان الأولى بكم إذا أردتم إغلاق المكان أن يكون من بدايته، فنحن قادمون من أحياء ليست قريبة من «الزمالك»، فأنا وزميلى أتينا من «مصر الجديدة»، فقال: لم نكن نعلم بما جرى، فالسيد «أنور السادات» أذاع الخبر منذ دقائق. عندئذ أدركنا أن المقصود هو الرئيس «عبدالناصر»، وأصابتنا المفاجأة بشىء من الذهول المكتوم لمدة دقائق، وبكى البعض وتشنج البعض الآخر، وخرجنا صامتين أنا وزوجتى وصديقى الدبلوماسى «إبراهيم بدوى الشيخ» الذى أصبح واحدًا من ألمع سفرائنا بعد حصوله على الدكتوراه فى الموضوعات المتعلقة بحقوق الإنسان.
ورأينا شوارع القاهرة وقد تحولت إلى مأتم سريع من هول المفاجأة، لقد رأيت بعينى فى الطريق فقراء «مصر» يبكون، وبوابى العمارات يصرخون، وحالة من الذهول الوطنى العام تسيطر على الناس فى كل مكان، والكل يدرك أن ذلك الحدث الكبير والرحيل المفاجئ قد حدث وأرض «مصر» محتلة، وشبح النكسة مازال يطل على أجواء الوطن، وكانت حرب الاستنزاف قد توقفت قبل ذلك بأسابيع قليلة بعد قبول الطرفين، المصرى والإسرائيلى، مبادرة «روجرز»، التى استكمل خلالها «عبدالناصر» بناء حائط الصواريخ المضادة للطائرات من أجل حماية سماء الوطن.
وعدنا ليلتها إلى بيوتنا نقلب بين محطتى التليفزيون المصرى، حيث القرآن الكريم بشكل متواصل، ثم ندير مؤشر المذياع على المحطات المختلفة، خصوصًا محطة الإذاعة البريطانية، ليتأكد لدينا الخبر دوليًا وتهتز له عواصم العالم، حتى وصف الكاتب الراحل «محمد حسنين هيكل» المشهد بقوله: لقد طأطأت مدافع الأسطول السادس فى البحر الأبيض رؤوسها احترامًا وإجلالًا لرحيل واحد من أبرز الزعماء فى عصره. وكان الأستاذ «هيكل» هو الذى صاغ البيان الذى أذاعه نائب رئيس الجمهورية «أنور السادات»، الذى تولى بعد «عبدالناصر»، فملأ الدنيا على غير توقع وشغل الناس بأحداث كبرى فى ميدانى الحرب والسلام عندما ثأرت «مصر» لكرامتها وعبرت قناتها واستردت أرضها.
إن المشاعر المتداخلة فى ذلك اليوم الحزين، والتى أستدعيها إلى ذاكرتى كلما استعرضت سنوات الشباب، حيث كانت تملؤنا الحماسة الصادقة حتى جاءت الهزيمة فى يونيو 1967 لتترك بصمة حزينة لم نبرح آثارها لسنوات طويلة.
والذى يعنينى هنا هو أن أقول إن شعورنا يوم رحيل «عبدالناصر» كان كالأيتام على مائدة اللئام، ومع ذلك استمرت الحياة وبقيت «مصر» خالدة كما هى عبر تاريخها الطويل، فالحياة لا تتوقف عند شخص مهما عظم قدره، فحتى الأنبياء رحلوا!
ونحن نتذكر أنه بعد وفاة الرسول «صلى الله عليه وسلم»- مع الفارق فى التشبيه بينه وبين سائر البشر- أن هناك من حاول أن يرتد عن دين الله، أو أن يمتنع عن دفع الزكاة، ولكن بقى الإسلام وظلت دعوته مضيئة حتى اليوم، فلا يجب الاستهانة بأى قادم جديد إلى السلطة بعد شخصية ذات «كاريزما» مؤثرة، فلقد انزعج المصريون بعد وفاة «سعد باشا زغلول» ثم جاء «مصطفى باشا النحاس» ليكون أكثر صلابة وأشد ضراوة فى مواجهة الاحتلال والقصر.
وعندما رحل «روزفلت» تصور بعض الأمريكيين أن أمرًا جللًا قد أصابهم، ومع ذلك جاء «ترومان» ليستكمل المسيرة وتستمر الحياة، وعندما رحل «عبدالناصر» توهم الكثيرون- وكنت منهم وقتها- أن البلاد لن تقوم لها قائمة بعد رحيل الزعيم والأرض محتلة والعدو على شاطئ القناة، ثم جاء «السادات» ليثبت أنه رجل دولة من طراز فريد استطاع أن يتخذ قرارى الحرب والسلام فى جسارة غير مسبوقة.
إننا بعد رحيل «عبدالناصر» منذ ستة وأربعين عامًا نتذكره، خصوصًا كلما رفع الفقراء والمعذبون فى الأرض والمسحوقون فى «مصر» صورته مع كل مناسبة وطنية لسبب لا يخفى على أحد، وهو أنه قد انتصر لقضية العدالة الاجتماعية وانحاز للطبقات محدودة الدخل، ثم رحل واقفًا كالأشجار الشامخة!
جريدة المصري اليوم
27 سبتمبر 2016
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1015586