هبطت بنا الطائرة فى مطار «هيثرو» فى أحد أيام شهر سبتمبر عام 1971، وكنت ملحقًا دبلوماسيًا منذ تعيينى فى وزارة الخارجية عام 1966، ومازلت أتذكر أول يوم فى «لندن»، حيث كانت لهفتى شديدة للتعرف على كل ما حولى، فالدنيا مختلفة تمامًا عن «القاهرة»، إذ كان قد مضى عام واحد على رحيل «عبدالناصر» وتولى «السادات» الحكم، لقد كانت «مصر» تمر بواحدة من أصعب الفترات فى تاريخها الحديث، فالأرض محتلة، والظروف الاقتصادية صعبة، والبنية الأساسية متهالكة، والشعار المطروح هو (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، على اعتبار أن (ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة)، وقد كان الجو اللندنى فى تلك الفترة مع نهاية فصل الصيف يدفع بنسمات باردة تؤدى إلى الانتعاش دون الوصول إلى قسوة الجو البارد، أذهلتنى العاصمة البريطانية ورأيت عالمًا جديدًا لم أكن قد خبرته من قبل، وهالتنى كثيرًا الحياة المنتظمة، التى تتوافق إلى حد كبير مع تكوينى الشخصى، الذى يميل إلى النظرة الكلاسيكية واحترام وجهة نظر كل كائن على الأرض وعشق النظام والهوس بكل ما هو تاريخى، ولقد لاحظت هناك أن قيمة الإنسان كبيرة، وأن مكانة الفرد عالية، تلك كانت هى انطباعاتى الأولى عن «مدينة الضباب» كما كانوا يسمونها حينذاك، واكتشفت بعد أيام قليلة أنها المدينة العالمية الأولى التى كانت تحوى البشر من كل مكان فى العالم دون تفرقة أو تمييز وهى تُرضى كل الرغبات، فيها الدراسة الجامعية العليا لأكثر النظم التعليمية والبحثية مصداقية وإحكامًا، وفيها أشد أنواع التسوق قبولًا وإغراءً، وفيها أقدم نظام للتأمين الصحى عرفته الدول الحديثة، وفيها كل مصادر الثقافة المتنوعة من كل أرجاء الدنيا، فالبريطانيون كانوا يتحدثون وقتها عن الإمبراطورية التى لا تغرب عنها الشمس، فإذا كان الغروب فى إحدى مستعمراتها فالشروق فى مستعمرة أخرى لها! والغريب أننى عندما هبطت «لندن» فى صيف 2016 كان يدور نفس الجدل الذى شهدته عندما هبطت إليها أول مرة منذ خمسة وأربعين عامًا، حيث كان الحديث المطروح وقتها يدور حول سؤال واحد، هو: هل تنضم «بريطانيا» إلى «السوق الأوروبية المشتركة» أم لا؟ بينما كان الجدل فى زيارتى الأخيرة للعاصمة البريطانية يدور أيضًا حول نتيجة الاستفتاء على الانسحاب من الاتحاد الأوروبى، تأكيدًا لخصوصية «المملكة المتحدة»، التى يشعر أهلها بأن بلدهم شىء مختلف عن عموم القارة الأوروبية، ولقد حاول «البريطانيون» الحفاظ على خصوصيتهم خلال سنوات عضويتهم بالاتحاد الأوروبى، فظلوا محتفظين بعملتهم التاريخية (الاسترلينى)، ولم يقبلوا الدخول فى اتفاقية التأشيرة المشتركة لدول الاتحاد (شنجن)، وقد لفتت نظرى دائمًا درجة التحضر العالية لدى «الإنجليز» فى «لندن» تجاه مواقف الآخرين.. فهم لا يمانعون فى أن يمارس «الاسكتلنديون» حقوقهم فى تقرير المصير، ولو أدى الأمر بهم إلى الانفصال عن «المملكة المتحدة»، ثم يضيفون إلى ذلك أنهم يمكنهم أن يقبلوا باستمرار «اسكتلندا» فى «المملكة المتحدة»، مع احتفاظها بعضوية «الاتحاد الأوروبى» فى ذات الوقت، ولاشك أن الطابع الكلاسيكى للمدينة هو مظهر يدعو إلى الألفة الدائمة، فأنا أرى فيها محال تجارية لم تتغير منذ رأيتها أول مرة عام 1971، وكذلك الأمر بالنسبة لواجهات المبانى، مع ثبات الطراز المعمارى، فهم هناك يلزمون مَن يريد إجراء تغييرات فى بيته بأن يحافظ على الواجهة كما هى دون عبث أو تغيير، كما أن لكل شىء قواعده ونظمه، والغريب أن ذلك كله يجرى فى دولة ليس لها دستور مكتوب، ولقد لاحظت فى السنوات الأخيرة أن المجتمع البريطانى يقترب أكثر من المزاج الأمريكى قدر ابتعاده عن النمط الأوروبى السائد، ولقد شهدت فى زيارتى الأخيرة تولى السيدة «تيريزا ماى» مقعد «تشرشل» و«مارجريت تاتشر» وغيرهما، خلفًا للسيد «كاميرون»، الذى أدى به سوء تقديره للموقف إلى فقدان منصبه، وقد جاءت رئيسة الوزراء بوزير للخارجية كان عمدة سابقًا لمدينة «لندن»، وهو كما يتردد من أصول تركية، وله تصرفات تبدو غريبة أحيانًا، فهو لا يحترم أصول أو قواعد «البروتوكول»، كما أنه يطلق شعر رأسه بطريقة لا تليق بمنصبه، بل لقد قال البعض إن رئيسة الوزراء تريد أن تحدد نهاية للتاريخ السياسى لذلك المسؤول البريطانى بوضعه فى صدارة المشهد حتى يكون سقوطه أسرع بسبب تصرفاته المحتملة.. إنها «لندن»، تلك المدينة التى تذكرنى دائمًا بتاريخ ما أهمله التاريخ بدءًا من سجلها الاستعمارى المؤسف وما فعلته فى «دنشواى» 1906، وما قامت به بعد ذلك بخمسين عامًا بالمشاركة فى مؤامرة «حرب السويس» و«العدوان الثلاثى» على «مصر»، ومازالت بعض الدوائر البريطانية السياسية والإعلامية والاقتصادية تمارس حتى الآن دورًا سلبيًا تجاه «مصر» ما بعد 30 يونيو 2013، وفى ظنى أن «بريطانيا» هى مستودع التفكير الغربى الذى تنهل منه «الولايات المتحدة الأمريكية» وغيرها من القوى الغربية، وهى التى تقود من وراء الستار سياسات الغرب فى الشرق الأوسط وفى غيره من مناطق العالم الملتهبة، لأنها الدولة الخبيرة بمعظم مشكلات العالم المعاصر، بدءًا من «القضية الفلسطينية» بين «العرب» و«إسرائيل»، مرورًا بمسألة «كشمير» بين «الهند» و«باكستان»، وصولًا إلى أزمات شرق أفريقيا ومنابع النيل، لقد كانت «بريطانيا» قوة عظمى سياسيًا وعسكريًا، فأصبحت قوة كبرى دبلوماسيًا وثقافيًا، فالإنجليزية هى اللغة الأولى فى العالم والثورة التكنولوجية المعاصرة فى الإعلام والاتصالات تعتمد على مفردات تلك اللغة الحية دائمًا، والتى تتصدر المشهد فى أرجاء المعمورة.
جريدة المصري اليوم
26 يوليو 2016
https://www.almasryalyoum.com/news/details/984777