شددتُّ الرِّحال أنا وأسرتى الصغيرة -زوجتى وطفلتان- عام 1979، صوبَ العاصمة الهندية؛ لكى أتسلَّم عملى دبلوماسيًّا فى سفارتنا بـ(نيودلهى)، ولقد عِشتُ هناك أربع سنوات رأيت فيها من العجائب والغرائب والمتناقضات ما يؤكِّد قول الفيلسوف العربى (البيرونى) عندما زار الهند منذ عدِّة قرونٍ، وخرج بالانطباع ذاته.
وأروى اليوم حادثتين صغيرتين من واقع الأشهُر الأُولى فى عملى هناك، فقد نظرتْ ابنتاى الصغيرتان ذات مساءٍ فى هَلَعٍ إلى (بُرصٍ صغيرٍ) يزحف على الحائط أمامهما فى بهو المنزل الكبير فأبْدتا انزعاجًا شديدًا، عندئذٍ طلبتُ من الحارس الذى كان يجلس بالقرب منَّا، والذى نُطلق عليه (بهادور) أن يتصرَّف مع هذا (البُرص) الذى تسلَّل إلى بهو المنزل، ويقتله، ولكنه رفض تمامًا، وقال لى بلغةٍ إنجليزيةٍ ركيكةٍ: إن هذا (البُرص) يبدو أنَّ عمره أسبوعان، وأنَّ والد الحارس قد رحل عن عالمنا منذ أسبوعين أيضًا، وهو يخشى أن تكون روح أبيه تقمَّصت هذا (البُرص) المتطفِّل، مؤكدًا لى إيمانهم فى (الهند) بنظرية (تناسُخ الأرواح)، بما فى ذلك الدورة الكاملة بين الإنسان والحيوان.
وحدث ذات يومٍ أيضًا أنْ جاءنا بائعُ الفضَّة السيد (جين) وفَرَشَ بضاعته فى حديقة المنزل -كما يفعل الباعة (الهُنود) دائمًا- وقد يتركون البضاعة أيامًا للعرض لدى المشترى، خصوصًا إذا كانت من السجَّاد الذى يمكن أن تستخدمه عدَّة أشهر، ثم تغيُّره منهم ببساطةٍ ورحابةٍ وهدوءٍ. وعندما بدأ السيد (جين) فى عرض بضاعته على زوجتى وأنا أجلس أمامهما كانت حشرة (حرامى الحلَّة) تمرحُ حولنا فى الجزء الذى نجلس عليه بشُرفةِ الحديقة، وكنت أقوم تلقائيًّا بالدَّوْسِ عليها للخلاص منها؛ لتفادى قرصتها المُعتادة، فإذا بى أجد وجه مستر (جين) وقد اكفهرَّ، وكأنَّما أصابته رعشةٌ خفيفةٌ، وبدأ يجمع مقتنياته فى غضبٍ مكتومٍ، فقلتُ له: ماذا جرى يا سيد (جين)؟! فقال لى: إنّك قاتلٌ، قلت له: كيف؟! فقال لى: لأنك تدوسُ على حشراتٍ بريئةٍ دون سببٍ، فقلتُ له: إنَّ الأمر مختلفٌ، فهذه حشراتٌ ضارَّةٌ تُمارس هوايتها فى القرص عندما تصلُ إلى أقدامنا، فأجاب بأنه يعلم جيدًا طبيعة المخلوقات من حيوانات وزواحف وحشرات، ويرى أنها لا تبدأ بالعُدوان على الإنسان أبدًا، كذلك فهى جزءٌ من دورة الكون الذى يقوم على فلسفة تؤدِّى فى النهاية إلى توازن تلقائى بين المخلوقات، فقلت له: يا سيد (جين) هذه فلسفة (تناسُخ الأرواح)، التى لا يوجد دليلٌ دينىٌّ أو علمىٌّ حولها، فأجابنى قائلاً: يكفى أن تعلم أننى أذهب مرةً كل أسبوع إلى القلعة الحمراء الشهيرة فى (دلهى القديمة)، وأبيت فى بعض أحراشها وسط ما يزيد على عشرين ثُعبانًا سامًّا وتلتفُّ حولى وتأنسُ لى ولا تضرُّنى ولا أضرُّها، وأنا أفعل ذلك بمنطق التعبُّد الذى يدعو إلى تحمُّل المصاعب واجتياز الآلام تقرُّبًا للآلهة التى أعبدها.
ويومها قلتُ فى نفسى: كم فيكِ أيَّتُها الأرض العظيمة من عجائب وغرائب! وتعلَّمت درسًا مهمًا فى احترام أصغر الكائنات، مثل احترامى لأعظم المخلوقات، فالحياة للجميع، ودورة الكون الغامض أكبر وأعظم من كل أفكارنا وجموح خيالنا، ولقد رأيتُ بعينى (البقر) يمرحُ فى الشوارع، وينام فى مداخل الكبارى، والمرور يتوقَّف احترامًا لذلك الحيوان المُقدَّس الذى كان يحنو على الآلهة وفقًا للفلسفة (الهندوسية)، كما لفت نظرى أن (البقر) يحمل من القداسة والتكريم ما لا يحمله حيوانٌ غيره، وعندئذٍ أدركت أيضًا أن مفهوم الإيمان أقوى من تفكيرى العابر أو حتى الخيال الواسع، فالإيمان عمليةٌ ذاتيةٌ يصعبُ المساسُ بها، وقد يستحيل تغييرها.. إنها فلسفاتٌ ودياناتٌ وشعوبٌ!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 207
تاريخ النشر: 21 يناير 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%aa%d9%86%d8%a7%d8%b3%d8%ae-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b1%d9%88%d8%a7%d8%ad-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84%d8%b3%d9%81%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%87%d9%86%d8%af%d9%8a%d8%a9/