يحفل تاريخ الأمم ويزدحم ماضى الشعوب بنماذج متعددة من الزعامات والقيادات، ولكن هناك نمطًا آخر أعم وأشمل وأعنى به تلك القمم الإنسانية التى تتجاوز حدود أوطانها وتخرج من إطار الجغرافيا لتستقر فى قلب التاريخ، ولعل عصرنا الحديث يحفل بنموذجين لهما مكانة رفيعة فى خدمة القيم الإنسانية والتعبير عن المعانى النبيلة فى الحياة، أحد هذين النموذجين آسيوى وهو (المهاتما غاندي)، والنموذج الثانى إفريقى هو (نيلسون مانديلا) وما بين الاثنين تتأرجح زعامات لا ننكر مكانتها من أمثال (ماو تسى تونج)، و(جواهر لال نهرو)، و(جمال عبد الناصر)، و(شارل ديجول)، و(سوكارنو) و(نكروما)، و(سنجور)، و(أنور السادات)، كما أن أسماء أخرى مثل (ونستون تشرشل)، و(جوزيف ستالين)، و(دوايت أيزنهاور) قد لعبت هى وغيرها أدوارًا مؤثرة فى سياسات القرن العشرين ولكن يبقى اسما (غاندي) و(مانديلا) متربعين على القمة، ولقد أتاحت لى ظروف عملى فى الهند أن أقرأ باستفاضة وأن أستمع بالتفصيل لكثير من القصص المرتبطة بالمهاتما إذ إن ذلك الروح العظيم يمثل أمام الإنسانية كلها قاهرًا للتعصب، ومعاديًا للظلم، وعدوًا للعنف إنه صاحب نظرية المقاومة السلبية، وهو المعلم الذى تستقى منه كل الفلسفات السلمية، ولو تأملنا مسيرة حياته منذ مولده حتى اغتياله فسوف ندرك كم كان فريدًا فى نوعه، وحيدًا فى بابه لا نكاد نجد له نموذجًا مثيلًا فى التاريخ الحديث، ولو تأملنا أيضًا مسيرته المضيئة من الهند إلى جنوب إفريقيا ثم العودة إلى بلاده ليحمل شعلة النضال ومصباح الضياء للأمة الهندية بل وللإنسانية كلها فسوف نكتشف أنه كان روحًا أكثر منه جسدًا، وكان طيفًا عابرًا أكثر منه زعيمًا وقائدًا، ولقد أتاحت لى ظروف عملى فى الهند أيضًا أن أزور مقبرته كل عام فى عيد ميلاده أو ذكرى اغتياله وعلى الرغم من أن أجساد الهنود من الهندوس يجرى حرقها فإن أرواحهم تظل حبيسة فى قبور رمزية يرتادها المحبون والمريدون، كما أن تلك المبانى الرمزية تتحول إلى متاحف مثلما هو الأمر فى الهند بالنسبة للمهاتما غاندى وتلميذه الحصيف السياسى المحنك جواهر لال نهرو، وتثير شخصية المهاتما لدى عددًا من الملاحظات أستأذن القارئ فى أن أطرحها:
أولًا: لقد تميز غاندى بالصراحة الشديدة والصدق الكامل فقد كتب فى مذكراته عن خوفه من الظلام وعن نصائح أمه له قبل السفر إلى جنوب إفريقيا، ثم يضيف فى شجاعة بعض أخطائه فى حياته ونزوات عمره وكأنه يجعل من الإنسانية كلها (أب الاعتراف) الذى لا يتردد فى أن يفصح أمامه عما فعل فى جرأة نادرة وصفاء نفسى لا نظير له، لقد أوصته أمه ألا يأكل اللحم، وألا يسيء إلى المبادئ التى استمدها من ثقافته الهندية حتى يظل دائمًا حارسًا لقيم أمته مخلصًا لمبادئ ديانته.
ثانيًا: إن زهد غاندى وحياته شديدة التقشف ـ كان يعيش شبه عار إلا من إزار يستر عورته وماعز يشرب من لبنها ـ يضرب مثالًا رفيعًا للبعد عن مباهج الحياة ومظاهر المدنية حتى إنه كان يغزل ثوبه ويقتصد فى طعامه ويبدو قديسًا جديدًا فى عالم لم يعد فيه مكان للأنبياء، لقد كان عازفًا عن المتعة، متعلقًا بدرجة عالية من التصوف المطلق الذى يجعله أقرب إلى الملائكة منه إلى البشر.
ثالثًا: لقد دافع غاندى عن أولئك الذين لا ينتمون إلى ديانته ولكنهم ينتمون إلى إنسانيته، وقد قتله متعصب هندوسى ظنه محابيًا للمسلمين ومتعاطفًا معهم بينما كان غاندى جزءًا لا يتجزأ من منظومة كاملة لا تعرف التعصب، ولا تؤمن بالعنف، ولا تسعى لهدف خاص إذ إن سمو نفسه ونبل نزعته جعلاه دائمًا فوق كل الاعتبارات البشرية العادية.
رابعًا: لقد سعى غاندى إلى تكريس مبدأ المواطنة مبكرًا قبل أن تفطن إليه كتابات المحدثين فى عصرنا الحالي، وبشر مبكرًا أيضًا بدرجة عليا من التسامح التى تفتقدها الإنسانية ويحتاجها العالم فى وقتنا الراهن، إننا نتذكر (مسيرة الملح) عندما وضع أمام شعبه نماذج للكفاح تتمثل فى أحداث رمزية تقترب بهم من تحقيق أهدافهم وفقًا لمبدأ أللا عنف ومفهوم المساواة بين الجميع.
خامسًا: لقد ارتبط غاندى بقضايا الكفاح الوطنى العادل فى كل أنحاء العالم وناصر المصريين ضد الاحتلال البريطاني، وعندما عبرت البارجة التى يستقلها قناة السويس فى طريقه إلى لندن ليحضر مؤتمر المائدة المستديرة فإن أحمد شوقى أمير شعراء العربية تطلع إليه قائلًا:
سلام النيل يا غاندي
وهذا الزهر من عندي
وكانت مصر تناضل من أجل الاستقلال بقيادة سعد زغلول ورفاقه وغاندى يدعمهم عن بعد ويتعاطف معهم بلا مواربة أو تردد فلقد كان الرجل بحق نصير الضعفاء وأيقونة العظماء ودرة الزمان والمكان.
تحية لغاندى فى وقت نحتاج فيه إلى مبادئه ونتطلع إلى أفكاره ونردد بعضًا من أشعار (طاغور) ابن البنغال العظيم الذى حمل جائزة نوبل مبكرًا وهو يدعم مع رفيق وطنه وابن أمته النضال العادل والسلام الحقيقى مرددين أناشيد الحق والحرية وهما يخوضان فى بحر الظلمات فى مواجهة حاسمة ضد الجبروت والتجبر والاستبداد والطغيان.. تحية له فى عالم سعى إليه، وارتبط به من البداية إلى النهاية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/677716.aspx