الأنبا بيشوى.. ذكريات مطوية
فاجأنى نبأ رحيله رغم أننى كنت أعلم منذ سنوات أنه معتل الصحة، وعندما رحل البابا شنودة كنت أراه من أوفر المرشحين حظًا لخلافته ولكننى كنت أدرك أيضًا أن النظام الكنسى الأرثوذكسى يضع الأمر فى النهاية بيد الرب وحده، كما كنت أعلم أن له خصومًا داخل الكنيسة ذاتها وأنه يعتبر من صقور تلك المؤسسة الدينية وأكثرهم تشددًا، كما كنت أعرف أن الطوائف المسيحية الأخرى لن ترحب باختياره لأنه من أكثر رجال الكنيسة تمسكًا بالنقاء الأرثوذكسي، وقد جمعتنى به علاقة طويلة عبر السنين فكان يهاتفنى من حين إلى آخر - وكنت أفعل نفس الشيء - ويرجع الفضل فى توثيق علاقتى به وجود صديق مشترك بيننا هو رجل الأعمال والسياحة الأستاذ منير غبور، وقد زارنى (الأنبا بيشوي) أكثر من مرة فى العاصمة النمساوية - وأنا سفير هناك - وكانت إحداها فى فترة الصيام القبطى - إذا جاز التعبير وكنت أستمتع معه فى بيتى بالطعام الصيامى خصوصًا وأننى من عشاق نوع من الكشرى المعروف فى شمال الدلتا وهو خليط من الأرز الأبيض والعدس الأصفر وحدهما وكان ذلك مع البصارة والفول والخضراوات فكان رحمه الله حسن المعشر خفيض الصوت واسع الثقافة محبًا لمن يثق فيه، وكان يحكى لى عن المعارك الفكرية التى يخوضها مع قيادات بعض الطوائف الغربية واختلافه العقائدى مع بعض الطقوس الكاثوليكية، وقد ضحك كثيرًا عندما أبلغته أننى ذهبت إلى وزيرة الخارجية النمساوية بناءً على طلب من المواطنين الأقباط فى فيينا طالبًا منحنا إحدى الكنائس الكاثوليكية المغلقة لتطويرها حتى تصبح مكانًا لصلاة المصريين الأرثوذكس وكيف أن المسئولة النمساوية استغربت طلبى بل واستهجنته، فقال لى يومها ذلك الحبر الجليل: هذا أمر متوقع فالخلافات المذهبية أحيانًا تؤدى إلى تباعد لا مبرر له، وكنت أراه دائمًا وهو طويل القامة بكوفية تقليدية ذات لون أحمر كانت على ردائه الكنسى الأسود فيبدو أمامى متميزًا يمكن التعرف عليه بسهولة وسط أقرانه من رجال الكنيسة فى المناسبات المختلفة، وذات يوم اتصل بى صديقى منير غبور وقال لي: إن الأنبا بيشوى والأنبا موسى يطلبان الالتقاء بك، فقبلت على الفور وكان ذلك عام 2010 - على ما أذكر - واقترح منير غبور أن يكون اللقاء فى منزله بمصر الجديدة، فالتقينا نحن الأربعة وقص عليّ الحبران الجليلان سبب اللقاء وهو شعور (البابا شنودة) بالحزن والأسى بعد أحداث كنيسة العمرانية وأنهما يقترحان قيامى بزيارته فى الدير الذى اعتكف فيه منذ أيام خصوصًا أنه قد تم نقل جهاز الغسيل الكلوى معه بما يعنى رغبته فى الاستمرار والابتعاد عن المقر البابوى فى القاهرة وبذلك فإنه سوف يغيب عن افتتاح دورة مجلس الشعب بعد أيام وسيكون الأمر مصدر تساؤلات وشائعات، فوعدتهما بزيارته فى الدير وطلبت موعدًا وذهبت والتقيت البابا شنودة ومعى منير غبور والدكتور نبيل بباوى الذى كان يريد عودة البابا ليناقش له إحدى أطروحات الدكتوراه التى يهوى بباوى جمعها، وبعد حديث طويل مع البابا الراحل - وقد كنت صديقًا عزيزًا عليه - قَبِل العودة إلى القاهرة وطلب لقاء الرئيس مبارك فى أقرب فرصة بعد عودته وحضر افتتاح البرلمان، ثم كانت الكارثة المروعة بانفجار كنيسة القديسين فى الإسكندرية ولو أنه ظل معتكفًا بالدير وحدثت تلك الجريمة لكان الأمر أسوأ بكثير مما كان عليه، وأتذكر الآن أن الذين حضروا لقائى مع البابا فى الدير كانوا هم (الأنبا يؤانس) مطران أسيوط حاليًا، و(الأنبا أرميا) مدير المركز الثقافى الأرثوذكسى حاليًا أيضًا و (الأنبا موسي) أسقف الشباب، أما الأنبا بيشوى فلم يتمكن من الحضور لإصابته فى ذلك اليوم بوعكة إنفلونزا ألزمته الفراش، ولكنه كان كالحاضر الغائب فى جلستنا، ومازلت أتذكر المساجلة الإعلامية بينه وبين المفكر المصرى الدكتور يوسف زيدان حول روايته (عزازيل) بما أثارته من جدل وما أضفته على الحياة الثقافية حينذاك من حيوية استخلص منها الأنبا الراحل مواقف مختلفة ظل متمسكًا بها حتى النهاية .. رحمه الله وعوض الوطن والكنيسة القبطية عنه خيرًا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/675605.aspx