- عندما كنت أعمل بمؤسسة الرئاسة بالقرب من الرئيس الأسبق «مبارك» كنت أستأذنه بين فترة وأخرى فى زيارة الأستاذ «هيكل» فى منزله، وكان الرئيس يسمح لى دائمًا بذلك، رغم أنه لم يكن على تواصل مستمر مع ذلك الكاتب الكبير، وكنت أذهب للأستاذ «هيكل» لأستمع إلى تحليلات جديدة، وأستفيد من رؤية شاملة، وأتابع التطورات العالمية والإقليمية، وأستمع إلى تعليقاته الموضوعية حول الوضع المصرى داخليًّا وخارجيًّا..
- وكان الكاتب الراحل لا يبخل علىَّ بذلك بل ويتحدث معى بصراحة زائدة وكنت أجلس معه إمَّا فى مكتبه على شاطئ النيل أو فى حديقة بيته بمنطقة «برقاش»، وفى كل الأحوال كنت أعود ولدىَّ رصيد جديد من الفكر السليم والرؤية الوطنية، وكنت أشعر وكأن فى جلسات العصف الذهنى معه نوعًا من شحن بطاريات الذاكرة المصرية خصوصًا أن التطورات -فى ذلك الوقت- كانت سريعة والأحداث متلاحقة ولا يمكن الإمساك بها دون عقلية متوهجة وفكر متَّقد مثل ذلك الذى كان يملكه الأستاذ «هيكل»، وأتذكر الآن بابتسامة صامتة ما جرى ذات مرة بيننا.. وكنت أجلس معه وتطرَّق الحديث إلى الأوضاع الداخلية فى مصر، وأبدى الأستاذ «هيكل» بعض الانتقادات التى لم يكن مستحبًّا أن أشارك فيها بحكم وظيفتى وإن كنت مُتَّفقًا معها بمنطق وطنيتى، ولذلك كنت أبتسم وأهز رأسى موافقًا دون أن أتحدث، فإذا بالأستاذ يقهقه ضاحكًا، قائلاً لى يا «مصطفى» إن التسجيلات الآن ليست صوتًا فقط كما كانت فى الخمسينيات والستينيات ولكنها صوت وصورة، فلا مفر أمامك، فتكنولوجيا المعلومات لم تدع مجالاً إلا وتحركت فيه، وبادلته السخرية وآمنت أن حرية الرأى لم تعد تتمتع بمساحة تحتاجها الشعوب وتطلبها المجتمعات برغم التقدم العلمى والتفوق التقنى، لأن الإرادة السياسية هى التى تتحكم بالنهاية فى كل ما يدور، فإذا انتقلنا إلى السيد «شعراوى جمعة» وزير داخلية الرئيس الأسبق «عبدالناصر» وصاحب التجربة الرائدة للمعهد الاشتراكى فى السويس حين كان محافظًا لها فضلاً عن أنه كان رجلاً نظيف اليد وضابطًا مستقيمًا له رؤية سياسية وطنية، وأتذكَّر أن الرئيس الأسبق «مبارك» كان يحمل له مودة خاصة لأن «جمعة» كان أحد أساتذة «مبارك» فى الكلية الحربية، وأتذكر أن السيد «شعراوى جمعة» -رحمه الله- هو الذى اتصل بى يوم أحداث الأمن المركزى قائلاً: إن الرئيس لابد أن يخرج للناس من خلال حديث تلفزيونى مباشر، يشرح فيه الحدث وملابساته وأسلوب علاجه، حتى لا يترك مساحة للتأويل ونشر الشائعات وترويج الأكاذيب، وبالفعل استمع الرئيس الأسبق إلى نصيحة أستاذه وألقى خطابًا فى التلفزيون امتصَّ به الموقف، وشرح أبعاده كافةً، باعتباره تمردًا فئويًا وليس محاولة انقلاب سياسى، وأتذكر أن السيد «شعراوى جمعة» كان يتصل بى من حين لآخر بودٍّ شديدٍ بل ويمازحنى أحيانًا، وأتذكر حزنه يوم فقد ابنه الوحيد فى حادث طريق، ولا أنسى أيضًا أنه والد زميلتنا الأستاذة الجامعية المرموقة «سلوى شعراوى جمعة» والدة بنات الدكتور «محمود جبريل» الذى كان رئيس وزراء «ليبيا» غداة سقوط حكم «القذافى» بعد اندلاع الثورة فيها، وذات يوم اتَّصل بى السيد «شعراوى جمعة» وقال لى: يا «مصطفى» إن خبرتى السابقة كوزير للداخلية لعدة سنوات قد علمتنى أننا حين نتابع شخصًا بالتسجيلات التليفونية فإننا لا نسمح أبدًا أن يتعطل هاتفه حتى يكون التسجيل متصلاً ولا تسقط منا فترات قد تكون ذات أهمية، ويضيف ذلك الوزير الناصرى الرَّاحل بضحكات ساخرة قائلاً: إننى أفترض أن هناك حتمًا تسجيلات لوزير داخلية سابق لذلك فإننى أرجو الإسراع فى إصلاح تليفونى حتى لا تضيع عليكم فرصة استكمال شرائط التسجيل لى بلا انقطاع! وقد كنت أظن ومازلت أنه لم يكن هناك تسجيل متعمد لشخص بمستوى السيد «شعراوى جمعة» لأن الدنيا كانت قد تغيرت ولم يكن مستهدفًا بأى حال فضلاً عن أنه كان يحظى باحترام خاص من الرئيس الأسبق «مبارك» كما أسلفت.
- والحقيقة، أن مسألة التسجيلات التليفونية كانت –لاتزال- هاجسًا للمشتغلين بالعمل العام، ومازلت أتذكر ما قاله لى الفقيه القانونى الكبير والوزير الأسبق «د. أحمد كمال أبوالمجد» من أنه افترض دائمًا فى أى حديث هاتفى له مع آخر أن هناك طرفًا ثالثًا يتابع المكالمة، وأنا أظن حاليًا أن وسائل التواصل الاجتماعى قد حلت بدرجة كبيرة محل جزء لا بأس به من التسجيلات، فالسرية الكاملة مستحيلة كما أن الخصوصية أصبحت فى خبر كان.. إنها ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات!
مجلة 7 أيام
https://www.7-ayam.com/%d9%87%d9%8a%d9%83%d9%84-%d9%88%d8%b4%d8%b9%d8%b1%d8%a7%d9%88%d9%89-%d8%ac%d9%85%d8%b9%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b3%d8%ac%d9%8a%d9%84%d8%a7%d8%aa/