رحل ذلك العالم الجليل، والطبيب الإنسان، والأستاذ الجامعى المرموق، إيذانًا برحيل عصر كامل من تاريخ «مدرسة الطب المصرية» التى تبدأ من «العصر الفرعونى» ولتبلغ ذروتها فى مطلع القرن التاسع عشر عندما أسس «كلوت بك» المرحلة الحديثة لهذه المدرسة التى ذاع صيتها فى المنطقة بل وفى أنحاء العالم وتألقت بأسماء لامعة من أمثال «على باشا إبراهيم» و«نجيب باشا محفوظ» و«عبدالوهاب مورو باشا» وغيرهم من أساطين الطب المصرى الراحلين والأحياء، لقد عرفت الدكتور «إبراهيم بدران» منذ مطلع سبعينيات القرن الماضى، وفى عام 1972 تحديدًا، عندما كنت نائبًا للقنصل فى «لندن» وزارها الراحل الكبير لشأن علمى وكان يتردد على يوميًا فى مبنى القنصلية لنتحدث فى الشؤون العامة وأحوال الوطن وبهرتنى دماثة خلقه وتواضعه الشديد وأدبه الجم وعلمه الغزير.
وفى آخر يوم لزيارته ترك لى مظروفًا مغلقًا على مكتبى وصافحنى وغادر المكان وفتحت المظروف لأجد رسالة رقيقة تفيض حبًا ومودة ويؤكد فيها على رغبته فى أن أكون صديقًا دائمًا له، وقد تأثرت بعبارات الشكر والثناء واحتفظت بذلك الخطاب فى جعبة ذكرياتى لأنه يحتوى كلمات صادقة من مصرى عظيم سوف يفتقده الوطن فى كل المناسبات، وقد امتدت علاقتى به على أرض الوطن وزرته وزيرًا للصحة ورئيسًا لـ«جامعة القاهرة» ثم رئيسًا لأكاديمية البحث العلمى، وأتذكر جيدًا كيف أصر على ترك موقعه فى وزارة الصحة لأن ذلك ـــ رغم بريق المنصب ـــ يؤثر على مسؤوليته تجاه مرضاه وهو الجراح الأول فى «مصر»، بل لقد أوفد ابنه إلى رئيس الوزراء حينذاك عند إعادة تشكيل الحكومة ليلح عليه بأن يعفى أباه من المنصب من أجل مصلحة عشرات من المرضى الفقراء، ولقد كان «إبراهيم بدران» شخصية ثرية بكل المعانى الإنسانية والفضائل البشرية فهو تقى نقى يعبد الله سرًا وجهرًا ويخلص لدينه ووطنه على نحو لم أر له نظيرًا، وعندما كان يلقى كلمة «تأبين» لزميله الراحل أستاذ طب الأطفال المتفرد ورئيس «جمعية الهلال الأحمر» السابق د. «ممدوح جبر» شعرت من كلمات «إبراهيم بدران» يومها أنه لا ينعى زميلًا ولكنه ينعى عصرًا يلملم أوراقه ويستأذن فى الرحيل، ولقد شهدت تقدير الأوساط العالمية لاسم «إبراهيم بدران» فقد زارنى وأنا مستشار للسفارة المصرية فى «الهند» ورافقته فى جولته بين المؤسسات العلمية والمستشفيات الكبرى فى تلك الدولة العظيمة وبهرنى فهمه السريع لكل ما يجرى حوله ومتابعته الدقيقة للتطورات العلمية لا فى «الغرب» وحده ولكن فى التجارب الشرقية أيضًا، إذ إن مدرسة الطب الهندية لا تقل عن نظيرتها المصرية من حيث كفاءة الطبيب ومستواه، ومازلت أتذكر عندما سجلت لـ«الدكتوراه» فى «جامعة لندن» عام 1972 أنهم كانوا يختبرون الطبيب المصرى من خلال امتحان اللغة الإنجليزية مثلما فعلوا معنا ويقولون له إننا نختبر لغتك الإنجليزية فقط، أما مستواك فى دراسة الطب فهو يعادل نظيرك البريطانى ولا حاجة بك لامتحان معادلة، بينما يقولون للطبيب الهندى أما أنت فلست بحاجة إلى امتحان فى اللغة الإنجليزية ولكن المطلوب منك هو اجتياز امتحان فى المادة العلمية حتى تلحق بمستوى الطبيبين البريطانى والمصرى، أقول ذلك وأنا أعبر عن أملى فى استعادة مدرسة الطب المصرية لتقاليد عصر «إبراهيم بدران» الذى حكى لى أنهم كانوا لا يدخلون الامتحانات الشفهية فى طب «قصر العينى» إلا وهم يضعون «الطربوش» على رؤوسهم احترامًا للأستاذ الممتحن الكبير وحفاظًا على تقاليد استمرت لسنوات طويلة، وحكى لى عن نادرة لأحد زملائه لم يجد «طربوشًا» فاستعار «طربوش» أحد معاونى الخدمة فى صالة الامتحان...
وليست هذه قضية ثانوية، إذ إن الحفاظ على الشكل جزء من احترام المضمون، وما زلت أتذكر الدكتور «إبراهيم بدران» عندما جرى تجنيده ضابطًا لفترة قصيرة وكان يزور صديقًا له فى خيمة بميدان القتال وقيل لهم وقتها اخفضوا أصواتكم لأن فى الخيمة المجاورة الصاغ «جمال عبدالناصر» احترامًا له وقد كان عائدًا من معركة «الفالوجا» فى ذلك الوقت ويضيف الدكتور «إبراهيم بدران» أنه التقى الرئيس «عبدالناصر» عام 1956 فى مناسبة جماعية وعندما سمع الرئيس الراحل اسمه قال له ألست أنت الشاب الصغير الذى جاء إلى ميدان القتال وكان فى خيمة مجاورة لمقر قيادة كتيبتى؟ لقد تعرفت عليك من الصوت والاسم.
ويضيف «إبراهيم بدران» أنه أسقط فى يده فى تلك اللحظة بسبب قدرة «عبدالناصر» على تذكر موقف بعد مروره بعدة سنوات، ولقد كرس «إبراهيم بدران» حياته لخدمة الطب والعلم معًا وأمضى سنواته الأخيرة فى خدمة التعليم وإنشاء مؤسسات عصرية ودعم جامعات حديثة فقد كان لا يتوقف عن التفكير فى خدمة وطنه ورعاية الأجيال الجديدة من أبنائه وقد ترأس «المجمع العلمى المصرى» ـــ الذى أسسه «بونابرت» أثناء الحملة الفرنسية على مصر ـــ بعد رحيل رئيسه أستاذ علم الحشرات الدكتور «محمود حافظ» الذى لامس المئة عام من عمره رحمه الله، ولقد واجه «إبراهيم بدران» مأساتين كبيرتين فى سنوات عمره الأخيرة عندما لفظ ابنه أنفاسه الأخيرة فى حجرة العمليات الجراحية أمام عينى أبيه ثم فقد بعد ذلك أيضًا حفيدًا غاليًا فى حادث سيارة وفى الحالتين كان الرجل مؤمنًا خاشعًا يحتسب عند الله ما استرد من ودائع فى سنوات عمره الأخيرة، وعندما شكوت له منذ شهور شعورى الدائم بالإرهاق قال لى: إنك لا تنام نومًا عميقًا وأوصيك بالاهتمام بساعات النوم المبكر فهى علاج لكثير من المتاعب الصحية.. لقد رحل «إبراهيم بدران» ومعه عصر لن يعود!
جريدة المصري اليوم
22 ديسمبر 2015
https://www.almasryalyoum.com/news/details/861686