علق بعض المصريين آمالًا على الزيارة الأخيرة لـ«البابا تواضروس الثانى» إلى «إثيوبيا»، وتصوروا أن موضوع «سد النهضة» ومسألة «مياه النيل» سوف يكونان على أجندة أحاديث «الحبر المصرى المسيحى» أثناء زيارته لـ«أديس أبابا»، وذلك التصور ينطوى على قدر كبير من السذاجة واستدعاء الماضى فى غير وقته والتفكير بأساليب القرن التاسع عشر ونحن فى القرن الحادى والعشرين، ذلك أن المصالح العليا للدول هى الفيصل، ولن يكون هناك مجال ملموس لتأثير روحى أو حياء دينى، فتلك أمور عفا عليها الزمن، ولم تعد عاملًا مهمًا فى العلاقات الدولية، بل توارت لكى تبقى فقط بعدًا ثانويًا يندرج تحت مسمى «القوى الناعمة»، التى نبالغ أحيانًا فى الحديث عنها على نحو لا يخلو من تعظيم للذات، ولا يبرأ من «شيفونية» موروثة، ولنا هنا بعض الملاحظات:
أولًا: إن العلاقة بين الكنيسة- «الأرثوذكسية» القبطية- الأم والكنيستين النظيرتين فى كل من «إثيوبيا» و«إريتريا» لا تخلو من حساسيات قائمة وملابسات واضحة، خصوصًا فى العقود الأخيرة، فلقد كانت كنيستنا المصرية العريقة هى صاحبة التأثير الأول على الكنائس التى كانت تبدو تابعة روحيًا للمقر «البابوى» فى «القاهرة»، حتى إن «بطريرك الحبشة» كانت تجرى رسامته بواسطة «بابا الإسكندرية والكرازة المرقسية»، ثم مر على المنطقة حين من الدهر أدى إلى انفصال الكنيسة الإثيوبية تنظيميًا وإداريًا، وربما روحيًا عن الكنيسة الأم فى «مصر»، والتى ظلت محافظة على شخصيتها التاريخية دون انحراف أو نزق، ومازلنا نرى مقر السفارة المصرية فى «إثيوبيا»، حيث يوجد إلى جوار منزل السفير مباشرة مقر قديم للمندوب البابوى المصرى الذى كان مبعوثًا لدى «الكنيسة الإثيوبية»، وعندما سقط حكم الإمبراطور «هيلاسلاسى»، خرجت الدولة الإثيوبية ذاتها من عباءة الكنيسة فيها، لأن الإمبراطور كان يحكم تحت مظلة روحية فيها مسحة دينية وكأنه من سلالة «داوود» و«سليمان»، وعندما وصل «منجستو» إلى السلطة، وقد كان يساريًا دمويًا متطرفًا، فإنه كرس القطيعة بين كنيسة بلاده والكنيسة الأم فى «مصر»، وبدأت مرحلة من الندية المتبادلة بين الكنيستين تحت العباءة «الأرثوذكسية»، وأتذكر هنا- من خلال عملى بمؤسسة الرئاسة- أن علاقة «مبارك»- «منجستو» كانت طيبة، وقال «منجستو» أمامى للرئيس المصرى: «إن النهر لنا ولكم ونحن شركاء فيه ولن يحدث من جانبنا ما يضر بلادكم»، بل جرى توقيع مذكرة تفاهم عام 1993- وكنت قد تركت عملى بجانب الرئيس الأسبق «مبارك»- تحفظ لـ«مصر» حقوقها المائية بشكل طوعى وودى من الجانب الإثيوبى.
ثانيًا: عندما استقلت «إريتريا»، برزت حساسيات شديدة بين كنيستها المستقلة وكنيستنا المصرية، وساءت العلاقة نسبيًا بين «مطران إريتريا» والبابا «شنودة الثالث»، وأتذكر أن وزير الخارجية الراحل «أحمد ماهر» قد اتصل بى ذات يوم، وطلب منى التحدث إلى البابا الراحل «شنودة الثالث» بشأن إمكانية تحسين العلاقات بين الكنيسة فى «القاهرة» ونظيرتها فى «أسمرة»، وبالفعل اتصلت هاتفيًا بالبابا الراحل الذى شرح لى باستفاضة ملابسات الموقف، وأضاف أن هناك دعوة موجهة إليه، وأنه سوف ينظر فى الأمر على ضوء المصالح المشتركة للدولتين والعلاقات التاريخية بين الكنيستين، وأوضح لى البابا الراحل ملاحظاته حول بعض التجاوزات من جانب «الكنيسة الإريترية» تجاه الشقيقة الكبرى «الكنيسة المصرية»، لذلك فإن الحساسيات بين الكنائس المسيحية- بما فيها تلك التى تشترك فى المذهب الواحد- قائمة، حتى وإن لم تطفُ على السطح، وبهذه المناسبة، مازلت أتذكر من فترة عملى سفيرًا فى «فيينا» أننى ذهبت إلى وزارة الخارجية النمساوية، والتقيت بوكيلها الدائم، طالبًا مبنى مناسبًا يمارس فيه المصريون الأقباط شعائر دينهم، وقلت له: «إن هناك كنائس كاثوليكية كثيرة مغلقة لديكم، فلماذا لا تعطوننا واحدة منها لتحويلها إلى كنيسة مصرية (أرثوذكسية؟)» فانتفض الرجل، وقال لى ساخرًا: «ولماذا لا تفكر فى تحويل كنيسة أخرى إلى مسجد؟ إن الفوارق المذهبية لدينا لا تسمح بما تقول!»، وانتهى بى الأمر إلى طلب قطعة أرض باسم الجالية المصرية تم تشييد الكنيسة عليها فى «فيينا»، حيث وضع حجر أساسها، ثم افتتحها البابا الراحل «شنودة الثالث».
ثالثًا: صرح متحدث رسمى باسم البابا الوطنى «تواضروس الثانى» بأن زيارته لـ«إثيوبيا» هى زيارة دينية تتطرق إلى العموميات فى العلاقة بين البلدين الأفريقيين الشقيقين، ولكنها لا تغوص فى أعماق المشكلات ولا تدخل فى التفاصيل، وأنا متفق مع بيان الكنيسة فى هذا الشأن، إذ إن البابا- رغم مكانته الروحية العالية وشخصيته المصرية المرموقة- هو فى النهاية مواطن مصرى لا يحمل تفويضًا سياسيًا بالحديث فى مسألة شائكة مثل «سد النهضة»، خصوصًا وهى تمر بفترة صعبة ومعقدة، إذ يكفى أن نتأمل تصريح السفير الإثيوبى فى «كينيا»- منذ أيام- حول موضوع «سد النهضة» والصلافة التى تميز بها حديثه وهو يتناول قضية مهمة تمس المصالح المشتركة لدولتين شقيقتين!
رابعًا: لا ينبغى أن نقحم الكنيسة الوطنية المصرية فى شأن سياسى على نحو قد يسبب لها حرجًا ويثير من الآثار السلبية أكثر مما يثير من إمكانية «حلحلة» الموقف المعلق، بل المتأزم بين البلدين، فالعلاقة بين الكنائس الشقيقة ليست أبدًا طرفًا فى العلاقات بين الدول، لأننا «نعطى ما لله لله، وما لقيصر لقيصر»، وذلك منطق نؤمن به ونعتز بتوارثه عبر القرون.
خامسًا: لن يهتم الإثيوبيون بالجانب الدينى للعلاقات بين «القاهرة» و«أديس أبابا»، فالمسلمون هناك يمثلون أكثر من 45% من السكان، والمسيحيون المصريون يمثلون 10% من السكان، لذلك فإن الطرح الدينى ليس له مبرر، ونحن فى عصر تحكمه المصالح المباشرة وليس الرؤى الدينية الكامنة.
.. هذه كلمة حق أردت بها أن أُعفى الكنيسة الوطنية المصرية وحبرها الكبير من أمر ليس فى مقدورها ولا يجب أن تتحمل تبعاته، ويكفيها أن تظل واحة روحية تلتقى مع «الأزهر الشريف» حول غايات الإنسان المصرى المعاصر فى الحرية والتنمية والعدالة الاجتماعية.
جريدة المصري اليوم
7 أكتوبر 2015
https://www.almasryalyoum.com/news/details/823145