لم يتعرض وطن عبر التاريخ للضغوط التى تعرضت لها «مصر»، مهما كان الحاكم مواليًا أو معاديًا للقوى الغربية فى وقته، وتلك ظاهرة تاريخية تستحق التأمل، لقد فعلها «الغرب» فى «اتفاقية لندن» عام 1849 ضد «محمد على» وتوسعاته الإقليمية، وفعلها عام 1967 ضد «عبد الناصر» وامتداداته القومية، ثم خرج «الغرب» عن السياق ولم تعد المسألة مجرد الخوف من الامتداد الأفقى للدولة المصرية بل تجاوز ذلك إلى القلق من العمق الرأسى داخل حدود «مصر»، فــ«الغرب» لا يريد لـ«مصر» التقدم الكاسح ولا يريد لها أيضًا السقوط المدوى، هو يريدها حية ولكن هزيلة، هو يريدها قائمة ولكن دون حيوية، ولقد حاولت «مصر» عبر مراحل كثيرة من تاريخها الحديث التقارب مع «الولايات المتحدة الأمريكية» و«الغرب» عمومًا ولكنها لم تجد الاستجابة المتوقعة والتى تتفاعل مع ذلك بما يعنى أن السياسة الغربية تجاه «مصر» هى سياسة تاريخية دائمة لا تتأثر بردود الفعل ولاتقيم وزنًا لغضب «القاهرة»، ولقد قلت يومًا فى عهد الرئيس الأسبق «مبارك» عبارة فى محاضرة لى بـ«معهد التخطيط القومى» فى حضور عدد من كبار الأساتذة والعلماء أتذكر منهم الاقتصادى الوطنى رفيع الشأن والقيمة «إسماعيل صبرى عبدالله» معلقًا على الانبطاح المصرى أمام سياسات «أمريكا» فى المنطقة فى وقت تقف لها قوى عربية بالمرصاد حتى ولو كان ذلك ظاهريًا، وقلت يومها: (إن القوى الكبرى لا تحب ولا تكره، ولكنها تحترم أو لا تحترم، فالهيبة الدولية لبلد معين هى معيار قيمته الحقيقية أمام الآخرين) وقلت نصًا: (إن «واشنطن» تنظر لـ«سوريا» بتقدير ودون حب، وتنظر لـ«مصر» بحب دون تقدير)، ولقد جلبت عليّ تلك العبارة يومها فى صيف1993 رد فعل عنيفا من مؤسسة الرئاسة رغم أن هدفى منها كان هو إذكاء روح «مصر الوطنية» ورفع قدرتها على التعامل مع القوى التى تعودت ممارسة الضغط عليها ومحاولة تحجيم دورها خصوصًا أن ذلك هدف إسرائيلى دائم مع أن «مصر» التى كانت قائدة الحرب هى أيضًا التى كانت رائدة السلام، وعندما اندلعت انتفاضة الشعب المصرى فى 25 يناير2011 وتلتها انتفاضة أخرى فى 30 يونيو 2013 وقف الشعب المصرى لأول مرة أمام خياراته الوطنية بأكبر قدر من الجرأة فى المواقف مع الرغبة الصادقة فى تغيير الأوضاع محليًا وإقليميًا بل ودوليًا لأن «مصر» فى النهاية ليست بلدًا هيّنًا ولا دولة هامشية، لذلك فإنها حين تطل على المنطقة فإنها تفتح ذراعيها مرحبة كما تبدو خريطة نيلها الخالد يجرى من الجنوب إلى الشمال وذراعاه بفرعى «رشيد» و«دمياط» يتطلعان إلى «البحر المتوسط» وينظران إلى الأفق البعيد إذ إن «مصر» قد قررت التحليق! إننا فى منطقة عاشت مع النكبات وتعودت النكسات وأدمنت الأزمات إلا أننا يجب أن ننظر نظرة أخرى إلى المستقبل فيها أمل وتفاؤل، فيها إرادة قوية وجرأة على الاقتحام فنحن دولة عريقة وقد حان الوقت لتصل عظمة عراقتها بإشراقة مستقبلها، إننى أعترف أن الطريق طويل بل وشاق ومحفوف بالمخاطر ولكنه الخيار الأوحد إذ لابد من التحليق فى النهاية ولن تتمكن الطائرة المصرية الكبرى من أن تحلق ولا يمكن لـ«أبو الهول» أن يطير إلا بعد استعداد كامل وترتيب مسبق من خلال رؤية شاملة تعتمد على المحاور التالية:
أولًا: ضرورة الرصد العلمى لموارد الدولة «طبيعية وبشرية» رصدًا أمينًا ودقيقًا نتمكن به من الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية والتوظيف الأفضل للموارد البشرية حتى نخرج من عنق الزجاجة ونتمكن من التحليق فى أمان، ولابد هنا أن نسجل أنه ليس لدينا حتى الآن مسح شامل وأمين للموارد الطبيعية ولا تصنيف سليم ودقيق للموارد البشرية، فنحن نسمع مثلًا عن «منجم السكرى» للذهب ولا نعلم على وجه اليقين ماذا جرى له أو ماذا يجرى فيه؟ كما أن جزءًا من مواردنا مهدر بدءًا من المياه مرورًا بمعادن الصحراء وصولًا إلى الأرض الزراعية التى جرى تجريفها تحت سمع وبصر الحكومات المتعاقبة رغم صرامة القوانين وتشديد العقوبات! والسبب ببساطة أننا لسنا جادين فيما نقرر ولا حازمين أمام من يخطئ كما أن الموارد البشرية مبعثرة تمامًا فما أكثر الكفاءات المطمورة والمواهب المغمورة والخبرات المدفونة بينما يطفو على السطح أحيانًا سفهاء القوم وأقلهم معرفة من ذوى الأصوات العالية والأساليب الملتوية، إن لدينا جيشًا من العلماء وذخيرة من المفكرين ورصيدًا من ذوى التجربة والخبرة ولكنهم مهمشون ومبعدون وأحيانًا محاربون، فإذا كان ذلك حالنا فى الماضى فإنه لا يمكن أن يستمر فى الحاضر أو يبقى للمستقبل وإلا ظلت طائرة الوطن تمشى على الممر ذهابًا وإيابًا دون جدوى.
ثانيًا: إن التخطيط صناعة المستقبل وهو العنصر الحاكم فى رسم الخريطة الجديدة للوطن على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ولننظر إلى «الهنود» وماذا فعل «نهرو» رئيس وزرائهم فى مطلع خمسينيات القرن الماضى حتى ندرك أن الرؤية البعيدة والاستراتيجية طويلة المدى جنبًا إلى جنب مع الخطط القصيرة والالتزامات محدودة التوقيت، إنها كلها لزوميات للانطلاق نحو المستقبل الواعد لوطن تتسع آماله وتتزايد أعداده وتتوافد أجياله.
ثالثًا: إن الخيال منحة من الله للبشر ليروا ما لا يستطيعون لمسه بأيديهم أو تحريكه مباشرة، وإذا كان الخيال منحة إلهية فهو نعمة إنسانية أيضًا تسمح لأصحابه بأن يروا ما لا يراه غيرهم وأن يدركوا بالبصيرة مالا يراه البصر، لذلك فإنه يتعين علينا أن نشد الرحال إلى المستقبل من خلال استشرافه خيالًا بعيدًا نسعى إليه ونتجه نحوه، إن الاكتشافات الكبرى والاختراعات الرائعة والأفكار العظيمة قد بدأت خيالًا يزور عقول أصحابها ويحوم حول أذهانهم حتى أمسكوا بها وقدموا للإنسانية ولأوطانهم خدمات جليلة، ولقد أصبح علينا فى «مصر» أن نحيل خيال مفكرينا ورؤية علمائنا إلى حقائق قابلة للتطبيق فى المستقبلين القريب والبعيد، إنها ضرورة لا مناص منها وقد أضعنا مئات الفرص فى جوانب حياتنا المختلفة.
تلك كلمات مخلصة من مصرى يدرك حجم التخلف، وقدر المعاناة، وسيطرة الخرافة، وغياب العلم، وفقر الخيال فى وطنه الذى هو أعرق الأوطان.. أيها السادة لقد تأخرنا كثيرًا وجاء وقت الإقلاع!
جريدة المصري اليوم
19 أغسطس 2015
https://www.almasryalyoum.com/news/details/795682