التغيير الثوري أم التحول الإصلاحي؟
أثارت الجلسة المهمة التى حضرها رئيس الجمهورية أثناء المنتدى الدولى للشباب فى شرم الشيخ، وتحدث فيها عن قضية احتلت جزءًا كبيرًا من اهتمامى فى السنوات الأخيرة حتى إننى أصدرت كتابًا منذ أكثر من خمسة عشر عامًا بعنوان (من نهج الثورة إلى فكر الإصلاح)، وأردت أن أدلل به على أنه إذا كان لدينا الخيار للانتقال بالوطن المصرى من مرحلة إلى أخرى فإن السياسات الإصلاحية تكون بطبيعتها أقرب إلى المزاج المصرى بديلًا عن ثورة لا تملك نهجًا فكريًا ولا منظومة إصلاحية، فيكون الثمن فى النهاية فادحًا وقد تصبح الأحوال فى بعض المراحل أسوأ مما كانت عليه، ذلك أن الثورات انفعال شامل لا تحكمه نظرية واضحة ولا برنامج محدد، وقد تلعب العاطفة دورًا أكبر مما يقوم به العقل، ولست بذلك أنكر على الشعوب حق الثورة لتغيير أوضاعها ولكنى أشترط التلازم مع مشروع إصلاحى، اعتمادًا على فكر نهضوى لا يسعى إلى التغيير لمجرد التغيير، فالمرض نوعان، أحدهما يمكن علاجه (على البارد) أى بالعقاقير والأدوية لأنه مرض مزمن تجدى معه العلاجات التدريجية والأساليب الوقائية، أما تلك الحالات الحادة للأمراض المستعصية فإنها تحتاج إلى تدخل جراحى وإلى مشرط الطبيب، شريطة أن تكون الجراحة جزءًا من رؤية إصلاحية للجسد كله، وذلك بالضبط هو الفارق بين مفهوم الثورة ومعنى الإصلاح، ومن الأمانة أن أرفع يدى قائلًا إننى أميل شخصيًا إلى النزعة الإصلاحية أكثر من حماسى للانفعال الثورى غير المنضبط، ولعلى أطرح رؤيتى فى النقاط الثلاث الآتية:
أولًا: إن الإصلاح تحول تنموى ديمقراطى يحتشد له فكر الأمة ويقوده عقلها، وقد يحتاج إلى فترة زمنية محسوبة حتى يتمكن من إظهار آثاره وبلوغ غاياته، إن تأثير أسماء مثل «رفاعة الطهطاوى» و«محمد عبده» و«العقاد» و«طه حسين» و«سلامة موسى» وأيضًا «مريت غالى» و«أحمد بهاء الدين» وغيرهم من الكوكبة اللامعة فى تاريخ مصر الحديث قد يكون عطاؤهم أنفع وأجدى من صيحات الغضب وانتفاضات الميادين لافتقادها إلى قيادة نزيهة تضم خلاصة العقول الوطنية بلا إقصاء أو استبعاد، فالوطن لكل أبنائه، والوطنية إحساس غريزى يجرى كالدماء فى العروق لا يحتكره أحد ولا تستحوذ عليه جماعة.
ثانيًا: إن المسار الإصلاحى يحتفى بالتعليم والبحث العلمى وتأمين الرعاية الصحية والنهوض بالمناطق الفقيرة والإصرار على العدالة الاجتماعية وضرب الفساد من منابعه وتأكيد سيادة القانون، فلقد ذكر شراح محدثون أن أفضل تعريف للدولة الديمقراطية أنها (دولة القانون) فالإصلاح تحول فكرى والثورة انقطاع جذرى والفارق بين الأمرين واضح، فالعقل يعلو على الانفعال والرؤية الشاملة تسبق الاحتجاجات العنيفة.
ثالثًا: تكفينا نحن العرب- المصريين خصوصًا- نظرة إلى ما تكبدناه فى السنوات الماضية رغم مشروعية انتفاضة الخامس والعشرين من يناير 2011 إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهى السفن، مليارات أنفقناها فى إجراءات أمنية وأسوار أسمنتية مع توقف عجلة الإنتاج أحيانًا وتحول أعداد كبيرة من القوى العاملة إلى (نشطاء سياسيين) حتى أهدرت مصر أموالًا طائلة ثمنًا لمواجهات أليمة، خصوصًا فى الفترات الأولى بعد مطلع 2011، هل تذكرون أحداث شارع محمد محمود ووزارة الداخلية وموقعة ماسبيرو وغيرها من الأحداث المؤسفة التى لا يوجد لدينا أرشيف واضح عن فترة حدوثها بدءًا من فتح السجون إلى السطو على جهاز أمن الدولة وصولًا إلى الاعتصام أمام وزارة الدفاع، فضلًا عن نهب المتاحف والعبث بالتراث القومى واستهلاك الاحتياطى النقدى، كل ذلك فى إطار شعارات ظاهرها الحق وباطنها الباطل؟
قد يقول قائل إذا كان ذلك هو أمر الإصلاح فكيف نحاسب حكامنا إذا انحرفوا أو طال عليهم الأمد وانتهت صلاحية عمرهم الافتراضى؟ وهنا تأتى الحاجة إلى الدولة الديمقراطية العصرية التى تؤمن بأن الأمة هى مصدر السلطات، وأن صوت الشعب العاقل هو القادر على إزالة ضجيج الباطل.. يومها سوف ننظر إلى الوطن وهو يحلق فى العلا ويبنى قواعد المجد من جديد!.
جريدة الاهرام
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1340668