ولما كان اليوم الأول من «رمضان» قد أتى على الأمتين العربية والإسلامية، ونحن لا نستطيع أن نقول إنهما فى أفضل حال أو فى وضع يدعو إلى الرضا، فالمخاطر تحيط بهما من الخارج والداخل، ومناسبة هذا الشهر الكريم هو أن نرصد تأثيره المتفرد على العالمين الإسلامى والعربى، وعلى الوطن المصرى تحديدًا عبر العصور والأزمنة، وذلك يطرح أمامنا الملاحظات الآتية:
أولًا: يأتينى خاطر بين حين وآخر يدعونى إلى البحث فى أسباب تخلف معظم المسلمين وتقدم سواهم، رغم أن «الإسلام» دين تقدمى بمعنى الكلمة، وجوهره يدعو إلى الأخذ بأسباب المعرفة وأساليب العلم ودوافع النهوض، ولكن يبدو أن «الإسلام» الحنيف شىء وأن مسلمى هذا العصر شىء آخر، وفلسفة شهر «رمضان» تعكس هذا المعنى بوضوح، فقد شرع الله «الصوم» للارتقاء بالجانب الروحى لدى البشر وتطهير النفوس والارتفاع عن الخطايا ونشر الخير والدعوة إلى البر، ولكن الذى حدث هو أن المسلمين قد اختاروا مظاهر الشهر دون الوصول إلى جوهره، فهم يحتفلون به على طريقتهم الخاصة التى تعبر عن مضمون اجتماعى وثقافى لا علاقة له بجوهر الدين، أما الدرس الحقيقى من «الصوم» فلا أحد يفكر فيه، فهو للغلمان والفتيات الصغيرات مظهر للنضوج والدخول فى مرحلة الكبار، والمتدينون يرون فى «الصوم» فريضة يحترمونها وقد تعودوا عليها منذ سنوات الطفولة، ولكن الذى يؤرقنى بالفعل هو انخفاض الإنتاجية فى هذا الشهر إلى النصف تقريبًا، وزيادة الاستهلاك إلى الضعف تقريبًا، وهو ما يعنى أنه شهر مخصوم من حياتنا، بينما أراده الله إضافة لنا، ولكننا نختار من طقوس ذلك الشهر ما نشاء ونرفض ما نريد، بل إننى أقوم أحيانًا بحسبة لاكتشاف فجوة التخلف بين المسلمين وغيرهم، متمثلة فى خصم شهر كامل كل عام من رصيد المسلمين عملًا وإنتاجًا، بينما هو محسوب عليهم بالضعف استهلاكًا وتبذيرًا. إن فلسفة «الصوم» تقوم على ضرورة الإحساس بشعور من لا يملكون ويعرفون «لسعة الجوع» فى حياتهم من الفقراء والمعذبين فى الأرض، فضلًا عن تعويد المسلم على الطاعة ومراقبة الخالق دون أن يراه أحد، أى أن الهدف يقوم على التربية الحقيقية لتنشئة الإنسان السوى، الذى يملك ضميرًا حيًا يمنعه من الخروج عن صيامه، رغم أنه لا يراه أحد، ولكنه الإحساس بأداء فريضة تقوم على فلسفة معروفة لا فى الإسلام وحده، ولكن فى معظم الديانات.
ثانيًا: إن «رمضان» فى تاريخ المسلمين هو شهر الجهاد الأكبر والأصغر، ففيه غزوة «بدر» الكبرى التى انتصر فيها المسلمون، وعلى الرغم من أنه شهر لا يستحب فيه القتال، فإن معظم حروب المسلمين والعرب قد جاءت فى هذا الشهر دون سواه، وهل ننسى أن نصر «السادس من أكتوبر» هو انتصار «العاشر من رمضان» عندما عبر جنودنا القناة وهم صائمون؟ وأتذكر أيضاً أنه عندما قامت إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق «بيل كلينتون» بتوجيه ضربة تأديبية بالطائرات الأمريكية ضد نظام «صدام حسين» فى منتصف تسعينيات القرن الماضى، أن هاج المسلمون فى أنحاء الأرض، لقيام «الولايات المتحدة الأمريكية» بعمل عسكرى ضد دولة مسلمة فى شهر «رمضان»، ثم صرح المتحدث الرسمى الأمريكى وقتها بأنهم- باستقراء تاريخ الدول الإسلامية- اكتشفوا أن معظم حروب المسلمين واقتتالهم مع غيرهم أو فيما بينهم قد حدثت فى هذا الشهر، رغم مكانته لدى المسلمين أنفسهم، ولذلك فإن شهر «رمضان» يحمل لنا ذكريات معقدة ومتداخلة من الأفراح والأحزان، من الحروب والاحتفالات، من الانتكاسات والانتصارات، لأنه فى النهاية شهر كسائر الشهور يحتل مساحة زمنية فى أعمار الأمم وحياة الشعوب، إننا إذ نبدأ شهر «رمضان»، فإننا نتأمل مرة أخرى فلسفته التى شُرِع من أجلها «الصوم» وما هدفت إليه حكمة الخالق من ذلك، لكى ندرك فى النهاية أنه يمكن استغلال هذه الفرصة السنوية لترويض النفس، وتدريب العقل، وتنقية الروح، والخروج من أزمات كثيرة وعثرات أكثر، لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
ثالثًا: يأتى «رمضان» هذا العام ونحن مطوقون بالمشكلات والأزمات لا فى «مصر» وحدها، بل فى معظم دول المنطقة، حيث المعارك الضارية والدماء الجارية والأشلاء المبعثرة التى تنذر كلها بدخول العالم العربى مرحلة من عدم الاستقرار، فى ظل ظروف معقدة للغاية ومواقف سياسية مركبة يختلط فيها الحابل بالنابل، ولا نكاد نعرف للخروج منها سبيلًا، والأمل معقود على روح هذا الشهر وفلسفته فى أن يخرج بنا من عنق الزجاجة، وأن يدفعنا نحو آفاق أرحب وأوسع من ذلك المنزلق الذى هبطنا إليه، نعم إن هناك مَن يتآمرون علينا ومَن لا يتوقفون عن تصدير الفوضى إلينا، ولكن تبقى إرادتنا النابعة من تاريخنا الحضارى وتراثنا الروحى قادرة على تغيير الأوضاع ومواجهة التحديات.
رابعًا: لقد تحدثنا كثيرًا هذا العام عما سميناه «تجديد الخطاب الدينى»، وأسرفنا فى الحديث عنه فى كل المناسبات، وها هو «رمضان» يأتى لكى يضبط المفاهيم المختلة ويصحح الصور المغلوطة، حتى نصنع سياجًا قويًا ضد الجماعات الإرهابية التى تتحدث باسم «الإسلام»، وهو منها براء. إن شهر «رمضان» يجب أن يتحول إلى مراجعة أمينة نتعرف فيها على أخطائنا ونخرج بها من ذلك الحصار المضروب علينا فكريًا وثقافيًا وسياسيًا، وليس الأمر صعبًا ولا مستحيلًا، فلقد استطاع المسلمون الأوائل أن يغيروا وجه الحياة على أرض هذه المنطقة من العالم، لذلك أصبح من المُتَعَيَّن علينا أن نستعيد تاريخًا مجيدًا مضى، وأن نعيش عصرًا حديثًا لا ينتظر، وأن نتطلع إلى مستقبل يسرع الخطى نحونا من كل اتجاه!
جريدة المصري اليوم
17 يونيو 2015
https://www.almasryalyoum.com/news/details/756550