فى مثل هذه الأيام منذ ثمانية وأربعين عامًا، عاشت شعوب الشرق الأوسط أوقاتاً عصيبة، فقد جرى استدراج البطل القومى العربى إلى مواجهة عسكرية تم التدبير لها بإحكام، وشاركت فيها «الولايات المتحدة الأمريكية» بنصيب كبير حتى انسحب الجيش المصرى فى مجموعات متناثرة، ما بين دهشة الشعب وألمه وحزنه، ولعلنا فى هذه الذكرى نعيد إلى الأذهان ما يلى:
أولاً: إن أى تقييم «للناصرية» سوف يكتشف أن الإطار النظرى لها كان صحيحاً، فالاستعمار هو الاستعمار، وجرائمه هى جرائمه، كما أن الصهيونية لا تزال هى مصدر الإزعاج الأصيل فى المنطقة والخطر الأساس على شعوبها وفى مقدمتها «مصر»، ولا نستطيع أن نزعم أبداً أن «عبدالناصر» كان مصاباً بعمى الألوان ولكننا يمكن أن ندعى أنه كان بطلاً قومياً أكثر منه رجل دولة، لذلك جرى استدراجه إلى معركة فى غير وقتها فقد كان جيشه متورطاً فى حرب «اليمن» والأوضاع فى المنطقة العربية توحى بالانقسام بين ما تمت تسميته «بالقوى التقدمية» و«القوى الرجعية»، كذلك فإن الوضع الداخلى فى «مصر» كان يوحى هو الآخر بأن النار تحت الرماد، فقد فرغ الحكم مباشرة من مؤامرة إخوانية كان من نتائجها إعدام «سيد قطب» ورفيقه وسجن الآخرين، لقد كانت نذر الأفول توحى بأن السحاب الكثيف سوف يمطر اضطرابات ومشكلات إن لم تكن هزائم وانتكاسات.
ثانياً: لقد كانت إدارة «جونسون» الأمريكية واحدة من أسوأ الإدارات فى «واشنطن» تجاه العرب، إذ إن اغتيال «جون كيندى» على يد اليمين المتطرف المتحالف مع الصهيونية الأمريكية قد سمح بانقلاب سياسى فى «البيت الأبيض» جعل من الرئيس «ليندون جونسون» دمية فى يد من يريدون تحطيم «عبدالناصر» وضرب الشعوب العربية لصالح «إسرائيل» ولتأمين مستقبلها، وربما لم يفطن «عبدالناصر» لذلك إلا متأخراً عندما حاول إيفاد نائبه «زكريا محيى الدين» إلى «واشنطن» فى الرابع من يونيو 1967 ولكن كان قد سبق السيف العذل، وبدأت المؤامرة بالضربة الجوية الإسرائيلية العسكرية لمطارات «مصر» وطائراتها على الأرض، فى تكرار واضح لسيناريو «العدوان الثلاثى» عام 1956، وإذا كان المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين فإن العرب يلدغون من نفس الجحر عدة مرات!.
ثالثاً: لقد كانت هزيمة «حزيران» 1967 ذات تأثير نفسى على الشعوب العربية حتى اليوم، وأنا شخصياً لا أنسى تلك الأمسيات الحزينة وأنا شاب حديث التخرج، عندما كانت المدفعية المضادة للطائرات تنطلق مع الظلام الدامس، وأزيز الطائرات المعادية يصم الآذان، ونحن لا نتصور ما يجرى حولنا بعد سنوات طويلة من الإحساس بالعزة والكرامة والكبرياء الوطنى والمد القومى، وأتذكر أيضاً كيف انتظرت عائلتى ثلاثة أسابيع حتى عاد أخى ضابط القوات المسلحة حديث التخرج حين أبلغنى اللواء أ. ح «إبراهيم محمود» الذى تم استدعاؤه للخدمة العسكرية بعد أن أقصته مراكز القوى فى القوات المسلحة، وقد قال لى يومها إن أخى قد عبر «القناة» مع مجموعة من رفاقه فروا من معسكر فى «عتليت»، حيث كان يتم تجهيزهم للإعدام رمياً بالرصاص بعد أن حفروا قبورهم بأمر من القائد الإسرائيلى الذى ينتمى لدولة لا تعرف قيمة أسير الحرب ولا حقوقه الدولية أو رعايته القانونية، وعندما أبلغنى اللواء المقاتل العظيم والد زميلى فى كلية الاقتصاد السفير اللامع فى عدد من عواصم العالم «محمد عاصم» بهذه البشرى عادت الحياة لأمى وأبى بعد أن كانا يعيشان فى ذهول حزين ومرارة اشتركت معهما فيها آلاف من أسر الضحايا ممن روت دماؤهم رمال «سيناء» فى تلك الأيام الحزينة، ولا يزال اللواء «إبراهيم محمود» والد زميل دراستى وصديق عمرى حياً بيننا وقد جاوز التسعين من عمره الحافل، ولكنه يبقى شاهداً على سبعين عاماً من الحياة العسكرية والتقلبات السياسية بنزاهة الجندى الشريف وأخلاق القائد المحنك.
رابعاً: إننا لا يجب أن نتهرب من 5 «يونيو- حزيران» ولا يجب أن تكون علامة إحباط أو سبباً للإحساس بالانكسار، إذ يجب أن نتذكر أن جيشنا الباسل قد ضرب العدو فى «رأس العش» بعد أقل من عشرين يوماً من الهزيمة، وهو أيضاً جيش «شدوان»، والعبور الانتحارى «للقناة»، وإغراق «إيلات» فى عرض البحر بصاروخ مدمر لضابط جسور ثأر لزملائه الشهداء، كما يجب أن ندرك أنه رغم كآبة الهزيمة فإن إرادة المصريين كانت هى الأقوى حيث تحرك «عبدالناصر» كالأسد الجريح يجمع شتات قواته ويستعيد الثقة فى النصر مهما كانت مرارة الهزيمة، كذلك يجب أن نعترف أن الدول العربية- خصوصاً تلك التى كانت فى عداء مع «عبدالناصر» ونظامه- قد وقفت كلها فى مصفوفة قومية تستنكر العدوان وترفض الهزيمة وتبشر بالنصر، وليتذكر الجميع مؤتمر القمة العربية فى «الخرطوم»- أغسطس 1967- وكيف استقبل الشعب السودانى الواعى «عبدالناصر» ورفاقه من القادة العرب إذ أدرك الجميع أننا جميعاً فى قارب واحد فإما أن نطفو جميعاً أو نغرق دون استثناء، ولا شك أن هزيمة «يونيو- حزيران» وحرب الاستنزاف وانتصار 1973 هى كلها علامات مضيئة على طريق الشعور القومى الواحد الذى يجمع العرب فى النكبات والنكسات والانتصارات أيضاً.
خامساً: لعلنا نتذكر الآن أن «عبدالناصر» بطبيعته عند البداية لم يكن معادياً «للولايات المتحدة الأمريكية»، ولكن فرضت عليه دبلوماسية «جون فوستر دالاس»، أن يكون كذلك بل إن الثورة المصرية 1952 قد نجحت بمباركة من «واشنطن» التى كانت ترى أن الوقت قد حان لتغيير النظم العربية القائمة من أجل وراثة أمريكية للنفوذين البريطانى والفرنسى فى المنطقة، والذين يتابعون السياسة الأمريكية بعد «الحرب العالمية الثانية» يتذكرون ما كان يتردد عن «نظرية الفراغ» فى «الشرق الأوسط» ومبدأ «أيزنهاور» الشهير، وهى كلها شواهد على الشهية الأمريكية المفتوحة تجاه المنطقة والتى تزايدت بعد إعلان قيام دولة «إسرائيل»، لذلك فإن ما جرى كان فى حقيقته خياراً أمريكياً ولم يكن موقفاً عربياً فعندما سحب «البنك الدولى» بتعليمات أمريكية عرض تمويل «السد العالى» كان ذلك إيذاناً برفض «واشنطن» لقيادة «عبدالناصر» ودوره فى المنطقة، وبداية لمواجهةٍ كانت حرب 1967 محطة رئيسية لها فلقد كانت أهداف «واشنطن» بل الغرب عموماً متعارضة تماماً مع التوجهات التى كان يبشر بها «عبدالناصر» والمؤمنون بها والمتعاطفون معها.
إن دراسة حرب 1967 سوف تكون فى الحقيقة دراسة لميلاد «حركات التطرف» و«إرهاصات التعصب» بل بدايات «الإرهاب»، لأننا لم نستوعب على الإطلاق خطورة التغييرات الكبرى- بالانتصار أو بالانكسار- فى معنويات الشعوب، ولم ندرك أن لكل منها رد فعل عنيفا يظهر بعد ذلك، محدثاً تغييرات جذرية لم تكن فى الحسبان، لذلك ليس غريباً أن أتذكر اليوم نكسة «حزيران».. إنها مستودع الأحزان!.
جريدة المصري اليوم
10 يونيو 2015
https://www.almasryalyoum.com/news/details/752323