لا لأننى عشت فى «الهند» سنوات أربعاً دبلوماسياً فى «السفارة المصرية» فى «نيودلهى»، كما مارست التدريس فى جامعة «جواهر لا نهرو»، لا بسبب هذا أو بسبب ذلك فقط أكتب عن التجربة الهندية التى تأثرت بها كثيراً، كما تأثر بها بعض المثقفين الذين عايشوها من قبلى وأذكر منهم تحديداً الكاتبين الراحلين «كامل زهيرى» و«محمد عودة»، فالهند ـ مثلما هى «مصر» ـ بلد لا يمكن أن تكون محايداً تجاهه، فإما أن تعجب به وأن تستغرق فى التعلق بهويته وأسلوب الحياة فيه وإما لا تصل إلى جوهره ولا تكتشف معدنه الحقيقى فتبدو بعيداً عنه حتى ولو عشت فيه، وعندما هبطت مطار العاصمة الهندية عام 1979 قضيت أنا وأسرتى شهوراً بائسة فى البداية؛ لأن نمط الحياة مختلف ولم تكن التسهيلات متاحة، خصوصاً بالنسبة لاستيراد مستلزمات المنزل الجديد وأدوات الحياة فى مجتمع مختلف، بالإضافة إلى قسوة الطقس وانقطاع الكهرباء لساعات كل يوم، وما هى إلا شهور قليلة بعد ذلك إلا وسقطنا جميعاً صرعى حبنا لذلك البلد الضخم وتعلقنا بتلك الأمة العظيمة، وإذ نحن على أبواب مرحلة تحول جذرى فى بلادنا فإننا نلتمس من التجربة الهندية بعض شواهدها القائمة ونستدعى منها الملاحظات الآتية:
أولاً: إن التنمية الصناعية هى التى صنعت «الهند» الحديثة، ولقد أثبتت التجارب المعاصرة أنه لا تقدم بغير صناعة؛ فهى التى تأخذ بيد الشعوب إلى الأمام، وهى قاطرة التقدم، ولقد أدرك «نهرو» ورفاقه ذلك فى وقت مبكر فبدأوا غداة الاستقلال يفكرون فى الدولة الهندية الحديثة التى تحتاج إلى الديمقراطية سياسياً وإلى التنمية اقتصادياً، فقرروا أن تكون الصناعة هى قاطرة التقدم الهندى، حتى أصبحت تلك الدولة الأسيوية الكبرى واحدة من الدول الصناعية المؤثرة فى عالم اليوم. لقد نجحوا فى إنتاج لوازم الحياة الهندية من أجهزة مختلفة ونوعيات متباينة وحققوا فى ذلك نجاحاً ملحوظاً، فالهند تنتج السيارة وتشارك فى تصنيع الطائرة، كما أنها أصبحت دولة نووية ودولة فضاء بل قبل ذلك كله أضحت أيضا دولة اكتفاء ذاتى فى الحبوب الغذائية.
ثانياً: تمثل «الهند» أكبر ديمقراطيات العالم المعاصر من حيث حجم الناخبين الذين يصوتون فى صناديق الاقتراع، ويبلغ عددهم مئات الملايين متجاوزين نصف مليار ناخب بكثير، وهم يتوافدون على مقار الانتخابات على امتداد 3 شهور كاملة، وقد كانوا هم أول من اكتشف فكرة الحبر على الأصبع الذى لا يختفى لمدد معينة، ونقلت عنهم تجارب أخرى نفس الفكرة بما فى ذلك «مصر»، وتعتمد «الهند» ـ الدولة البرلمانية الكبرى ـ على نظام المجلسين «اللوك صابها» و«الراجا صابها» وتتمتع الديمقراطية فى تلك البلاد الواسعة بدرجة عالية من الشفافية رغم الفقر والأمية وذلك رد حاسم على من يزعمون أحيانا أن «مصر» غير مهيأة للديمقراطية الحقيقية بدعوى شيوع الفقر والأمية! ويكفى أن نتذكر أن رئيسة الوزراء الراحلة «أنديرا غاندى» قد فقدت منصبها وهى فى الحكم عندما لم توفق فى دائرتها الانتخابية، وذلك دليل على حياد سلطات الدولة واحترام إرادة مواطنيها.
ثالثاً: نجحت «الهند» فى تحويل التعددية ـ العرقية واللغوية والدينية والطبقية ـ لخدمة أهداف الدولة وتحقيق غاياتها، بل أثبتت التجربة الهندية أن الدول ذات التعددية هى الأكثر استعداداً للتقدم، وأن الأحادية فى المكون السكانى ليست ميزة بل تعوق أسباب التقدم وتحول دونها، ولقد وظف الهنود التعددية لديهم لكى تكون دافعاً للتوحد والتماسك وليست سبباً للفرقة والانقسام، وذلك «وفقاً لنظرية الضرورة» التى يشعر فيها كل طرف بفائدة الارتباط بالأطراف الأخرى.
رابعاً: لقد تمكنت التجربة الهندية من تحويل الزيادة السكانية فى معظمها تحويلاً نوعياً وجعلت من الكم الكبير كيفاً مفيداً، وأثبتت تلك التجربة أن الزيادة السكانية ليست دائماً نقمة بل إنه يمكن تحويلها إلى نعمة مثلما فعلت «الهند» وقبلها «الصين»، ولعل مصر تستفيد من ذلك النموذج الآسيوى الذى نجح فى توظيف الكم لخدمة الكيف وجعل الزيادة السكانية نعمة وليست نقمة من خلال مناهج التعليم وطرائق التدريس وبرامج التدريب وخلق وعى عام بإمكانية رفع مستوى الأداء فى كافة المجالات.
خامساً: إن التشابه التاريخى بين التجربتين المصرية والهندية من الناحية السياسية يذكرنا بعلاقات «غاندى» بزعماء الحركة الوطنية المصرية، وفى مقدمتهم «سعد زغلول» و«مصطفى النحاس»، فضلاً عن الفترة المزدهرة للعلاقات بين البلدين، وأعنى بها فترة العلاقة الوثيقة بين «نهرو» و«عبدالناصر» ودورهما فى تكوين حركة عدم الانحياز وتركيزهما على العناصر المشتركة بين البلدين وأهمها مكافحة الفقر وتنمية الصناعة وتعزيز بعض البرامج الإصلاحية، ولكن الذى حدث هو أن هزيمة 1967 كانت لحظة انقطاع وتوقف فى المسيرة المصرية، بينما استكملت «الهند» طريقها المرسوم حتى الآن، وحققت فى ذلك إنجازات مشهودة على معظم المستويات.
..إن النقاط السابقة تدعونا إلى تأمل «النموذج الهندى» الذى حقق نجاحات باهرة بينما كان يمضى معنا على خط مواز عند نقطة البداية، ولكن أين هم الآن وأين نحن؟! فالجدية والاستمرار ركيزتان حرص عليهما «النموذج الهندى» وافتقدتهما التجربة المصرية!
جريدة المصري اليوم
19 فبراير 2015
https://www.almasryalyoum.com/news/details/660751