عرفت البشرية عموماً، والحضارة العربية الإسلامية خصوصاً، موجات من أولئك الذين انسلخوا عن المجتمع وخرجوا على الدولة فى حروب امتدت عشرات السنين، وأنا هنا لا أقصد فقط «الخوارج» أو «المعتزلة» أو «جماعة الحشاشين» وغيرهم من نماذج التطرف والانقلاب على جموع الناس فى التاريخ الإسلامى، ولكن أستهدف ظاهرة التمرد على الأغلبية والانفلات الأمنى والأخلاقى وترويع الآمنين وقتل الأبرياء.
وفى ظنى فإن علاج هذه الظاهرة لا يتوقف عند حدود التعامل الأمنى معها فقد يكون ذلك علاجاً لحظياً لكنه لا يكون أبداً علاجاً للظاهرة من جذورها، كما أنه لا يصلح لمواجهتها على المدى الطويل، فمواجهة «الإرهاب» تنقسم إلى مرحلتين: الأولى «علاجية» أى التصدى للظاهرة بعد ميلادها وذلك من خلال المواجهة الأمنية وسياسة تجفيف المنابع لإيقاف الدعم المادى للمستفيدين من ممارسة الإرهاب الذى سيطر على حياة الناس وشغلهم على نحو غير مسبوق، ولكن العلاج الحقيقى ينقلنا تلقائياً إلى الجانب الآخر فى أسلوب مواجهة تلك الظاهرة التى تفشت واكتسحت أمامها الشعور العام بالأمن والإحساس المشترك بالأمان، ولعلنا ندرك أن الجانب «الوقائى» يمثل معالجة استباقية للظاهرة وبذلك فهو يعتمد بالدرجة الأولى على الإطار الفكرى والمحتوى الثقافى بما يشملان من دور للمؤسسة الدينية وإعلامها الرشيد الذى يعد «رأس الحربة» فى مكافحة تلك الظاهرة الخطيرة، ولعلى أسوق هنا الملاحظات التالية:
أولاً: إن المعالجة الفكرية للظاهرة الإرهابية هى الأهم والأكثر تأثيراً والأقوى فاعلية، لأن الإرهاب يعتمد على أفكار مضللة وفهم مغلوط لرسالات السماء، مع إحساس دائم بالعزلة والشعور بالاضطهاد والهجرة الزمانية من المجتمع الذى تسعى لتكفيره، وتجد ذاتها فى العنف الذى يصل إلى حد سفك الدماء وذبح الأبرياء وسبى النساء، إن «الإرهاب» مرض يحتاج إلى علاج طويل المدى كما أنه يمثل موجات من الصعود والهبوط التى لا تتوقف بين يوم وليلة ولكنها تستمر عقوداً بل إنها استمرت أحياناً قروناً بين الانتشار والانكماش، ولا شك أن أسلوب «المراجعات الفكرية» من خلال العلماء الثقات هو واحد من أهم أساليب التصدى لهذه الظاهرة المرضية التى تنخر فى جسد المجتمع وتبدو كالسرطان الذى ينتشر فى الجسد ويضعف مقاومته ويهدم جهاز المناعة الذاتى فيه، ولا يتوهم البعض أن «الإرهاب» لا يستند إلى فكر معين بل العكس هو الصحيح، إذ إن «الإرهاب» يعتمد على مجموعة من الأفكار والأوهام والمشاعر المضطربة والرؤى التى ليس لها تفسير إلا خضوع المريض بالإرهاب لعملية «غسيل مخ» تجعل صاحبها مدفوعاً لارتكاب جرائمه بصورة عشوائية تعكس فكره المضطرب ونفسيته الشاذة، ومن هنا فإننا يجب أن نتناول الظاهرة الإرهابية باعتبارها مرضاً دولياً يجتاح مناطق مختلفة من العالم دون وعى وربما دون تفرقة أيضًا.
ثانيًا: إن «الإرهاب» تصرف إجرامى يستهدف الحكومات ولكن تدفع ثمنه الشعوب، لأنه يسعى لضرب الاستقرار وتقويض دعائم نظم سياسية معينة أو الترويج لنظمٍ أخرى، وهو لا يستطيع ذلك إلا بتوجيه ضرباتٍ متلاحقة تكون آثارها المعنوية أكثر من آثارها المادية، فالظاهرة الإرهابية تسعى إلى الفرقعة الإعلامية بالدرجة الأولى لأنها تستهدف معنويات الأفراد وتسعى إلى ترويع أمن الأسر بحيث يصبح كل مواطنٍ خائفًا على نفسه وعلى ذويه من كل اتجاه، فتتراكم مشاعر الغضب على نظامٍ لا يحميهم وسلطةٍ تسببت فيما هم فيه، وعندما ينتشر الفزع وترتبك مظاهر الحياة يكون «الإرهاب» قد حقق مطلبه ونجح فى مسعاه، ولذلك فإنه يستهدف أحيانًا شخصياتٍ لا علاقة لها بالسلطة الحاكمة ولكنها تبدو «للإرهابيين» أهدافًا سهلة تؤدى إلى تأثيرها المطلوب، فهم يبعثون برسائل الترويع والتخويف بغض النظر عن هوية الضحية الذى قد يكون طفلاً صغيرا أو شيخًا كبيرًا أو امرأة مسالمة، ولكنه العدوان الأعمى على البشر بغض النظر عن هوياتهم.
ثالثًا: إن الإرهاب لا ينتمى إلى ديانة بعينها أو قومية بذاتها بل هو داء لعين يأتى فى أى وقت انطلاقًا من أى ديانة أو ثقافة، فقاتل «المهاتما غاندى» «هندوسى متطرف» وقاتل «أنديرا غاندى» «سيخى متطرف» وقتلة «السادات» «مسلمون متطرفون»، وقاتل ولى عهد النمسا الذى تسبب فى «الحرب العالمية الأولى» كان «أرثوذكسيًا متطرفًا»، فالجريمة لا تعرف دينًا بعينه ولا قومية محددة، إنها بنت الضغوط الإنسانية وقد تكون وليدة القهر السياسى والظلم الاجتماعى، كما قد تكون فى الغالب وليدة سوء الفهم وقصور المعرفة، فضلاً عن الدوافع الاقتصادية، فالعشوائيات وتجمعات الفقراء والمحرومين تدفع بقوافل من المتطرفين الذين يعتمدون «الإرهاب» وسيلة للتعبير عن الرأى حتى ولو كان خاطئًا، وأسلوبًا لتغيير الأوضاع حتى وإن لم يكن شرعيًا.
لقد عرفت الإنسانية فى تاريخها الطويل أمراضًا وأوبئة وكوارث ونكبات، ولكن الظاهرة الإرهابية تنفرد من بين هؤلاء جميعًا بأنها تسعى لتدمير الحياة، ووأد السلام الإنسانى، وترويع الآمنين دون تمييز.. إن الإرهاب بحق هو طاعون العصر.
جريدة المصري اليوم
15 يناير 2015
https://www.almasryalyoum.com/news/details/631144