التعليم بين السياسات والإجراءات
دعانى الأستاذ مكرم محمد أحمد لحضور الحوار الجامع بين رؤساء تحرير الصحف والمعنيين بشئون التعليم فى لقاء موسع يحضره نقيب الصحفيين والمسئول عن الصحافة فى المجلس الأعلى للإعلام وذلك فى لقاء موسع مع الوزير الدكتور طارق شوقى, وقد أجلت سفرى إلى الإسكندرية يومًا وذهبت إلى مقر وزارة الإعلام، حيث انعقد اللقاء برئاسة الأستاذ مكرم، وقد تحدث الوزير ومعه بعض مساعديه لشرح النظام الجديد للتعليم, وقد أوضح الوزير نقاطًا كثيرة وأجلى عددًا من مبررات الغموض الذى يلتبس لدى البعض حول مستقبل التعليم فى مصر، وقد جاء دورى فى الحديث فقلت: علينا أن نستقبل النظام الجديد بعقول وقلوب متفتحة خصوصًا أن الإنسان بطبيعته عدو ما يجهله؛ كما أن الدنيا قد تغيرت والعالم يتطور وأى تجربة جديدة إذا نجحت فذلك فضل من الله والقائمين عليها؛ وإذا لم يتحقق لها النجاح فلن يكون الوضع أسوأ مما هو عليه، وقد وجه الكتاب والصحفيون أسئلة مباشرة وبعضها لا يخلو من الحدة والاختلاف الشديد فى الرأى وكان الوزير صبورًا يشرح وجهة نظره التى تدعمها الدولة وهو مؤمن تمامًا بما يقول متحدثًا عن تجربة طويلة ودراسة مستفيضة واقتناع كامل بالأفكار الجديدة، ولكننى اختتمت حديثى وقتها بطرح قضية أساسية مؤداها أن ما نشهده هو إجراءات جديدة، بينما المطلوب قبل ذلك هو السياسات الجديدة؛ أى أننى أردت أن أنقل الأمر من مرحلة (المايكرو) إلى مرحلة (الماكرو)، أى أننى طالبت بوجود رؤية تستند إلى أساس فكرى تواجه بالدرجة الأولى قضية الأعداد الكبيرة فى مراحل التعليم بمصر, مؤيدًا وبشدة شعار «التعليم كالماء والهواء»، ولكننى أردفت أن ذلك ينسحب على التعليم فى المدارس، أما الجامعات فتلك قضية أخري، لأن الشاب يصل إلى سن يستطيع فيها أن يغطى نفقات تعليمه بعمل يقوم به مثلما هو الأمر فى معظم دول العالم، أما الشريحة المتفوقة فى دراستها قبل الجامعية فإنها تستمتع بالمجانية كحق مكفول فى مقابل التفوق، ولكن لا يمكن أن يكون ذلك الحق مكفولًا لكل من هب ودب دون استعداد حقيقى أو رغبة صادقة، فالدولة تهدر المليارات فى تعليم لا يؤدى إلى نتائج إيجابية، إذ إن مصر فى حاجة إلى جيش كبير من المهنيين والحرفيين لمواجهة عملية التنمية بدلًا من أن ترصع حوائط المنازل والمكاتب بشهادات الدكتوراه والماجستير، وغالبًا لا يكون منها جدوى إلا الوجاهة الاجتماعية وتسهيل الارتباطات الزوجية! فأنا مع مجانية التعليم كما قررها طه حسين ودعمها عبد الناصر ولكننى ضد سوء استخدامها وتحويلها إلى ثغرة لهدر موارد الدولة دون عائد، وكل ما أقوله لا يمس أوضاع المتفوقين فى أى مرحلة فهؤلاء أيقونات، الدولة تحرص عليهم وتدعمهم وتبارك مسيرتهم، والغريب أننى تلقيت بعد ذلك سهامًا مسمومة ممن لا يدركون الحقيقة ولا يعرفون فحوى ما قلت ولا جدوى ما ذهبت إليه، والحقيقة أن أولئك الذين يتصورون أنهم يحتكرون الوطنية والدفاع عن العدالة الاجتماعية لا يحق لهم أن يتصوروا أنهم هم فقط الوطنيون والمصلحون ودعاة العدالة، فالجميع يسعى إلى المصلحة العامة بأساليب مختلفة ولكن سوء النية ليس قائمًا، ولقد أرسلت لى زميلة فاضلة ابنة زعيم كبير له قدره العظيم فى تاريخنا القومى تقول لي: لمصلحة من هذا الكلام؟! وسألت نفسى ذات السؤال لأجد أن الأمر كله لمصلحة الوطن وأبنائه، فأنا أحسب أن بلادنا فى حاجة إلى عشرات من مراكز التدريب الفنى والمعاهد المهنية المتخصصة، بل إننى مازلت أذكر مدارس (الدومبوسكو) و(ليوناردو دافنشي) ومشروع (مبارك - كول) وكلها لتأهيل الشباب المصرى للانخراط فى قضايا التنمية وبناء الدولة بدلًا من الجلوس على المكاتب والتباهى بالدرجات العلمية وترديد الأسماء اللامعة فنحن محكومون بحسن المقصد وصدق النية، وقد تختلف الآراء ولكن التجريح لا مبرر له والإساءة إلى الآخرين أمر يسير، فما أسهل التنابز بالألفاظ بلا معنى وترديد الشعارات بلا مضمون. إننى أريد أن أقول إن التعليم قضية قومية ومسألة استراتيجية تحتاج إلى الخبراء لا فى التعليم وطرق التدريس وصياغة المناهج وإعداد المعلم والمدرسة فقط، ولكن الأمر يتجاوز ذلك إلى أساتذة العلوم السلوكية وخبراء علم النفس والذين درسوا سيكولوجية الطفولة حتى يمكن أن نبنى جيلًا يرفع قواعد المجد وحده كما قال شاعر النيل حافظ إبراهيم، ولذلك فإننى أدعم التوجه الجديد لأسلوب التعليم العصرى والحديث، خصوصًا أنه يقف على قمة التعليم العام وزير متميز هو وزير التربية والتعليم، كما يقف على قمة التعليم الجامعى شخصية مؤهلة للغاية وكأنما أعدها القدر لهذا الموقع، إنها فرصة تاريخية للاهتمام الذى يوليه الرئيس السيسى والدعم الذى يوجهه لمسيرة التعليم فى مصر، لأنه قاطرة التقدم وهو بوابة العصر وهو المؤشر الأساس للتحول نحو المستقبل.. إن الطريق طويل، وليست الصورة وردية فى بدايتها والأمر يحتاج إلى صبر كما أن المعاناة سوف تستمر لفترة حتى يتعود الجميع على نظام (التابلت) فى تدريس المعارف المختلفة وسوف يكون فى ذلك قضاء على الدروس الخصوصية ومافيا طبع الكتب وغيرها من أصحاب المصالح الذين يحاربون السياسة التعليمية الجديدة بكل ضراوة، لأنهم يدركون أنها تتعارض مع مصالحهم التى اعتادوا على تحقيقها على حساب الأسر المصرية الفقيرة التى يبلغ إنفاقها على الدروس الخصوصية كل عام ما يصل إلى خمسة وعشرين مليار جنيه، بينما ميزانية الدولة من أجل التعليم تحتاج إلى مدد سريع وعلاج عاجل ولكنه يذهب للأسف إلى جيوب حفنة ممن تخصصوا فى الاستفادة من نظام التعليم السابق ومازالوا يحاولون الاستفادة من النظام الجديد ولو بشكل مختلف.. إنها قضية العصر وكل عصر، فالتعليم هو الذى يفتح أبواب الدنيا على مصراعيها أمام الأمم الناهضة والشعوب المستنيرة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/679795.aspx