يوم الميلاد
يلقى كل عام يمضى بأثقاله فى الرابع عشر من نوفمبر ليخصم سنة من الرصيد الباقى ويضيف إلى العمر رقمًا جديدًا ويذكرنى بمواليد ذات اليوم فى مختلف الأعوام، مثل «جواهر لآل نهرو» و«طه حسين» و«بطرس بطرس غالى» و«الملك حسين بن طلال» و«الأمير تشارلز» ولى عهد المملكة المتحدة وغيرهم من آلاف لا أعرفهم، ولكننا نشترك جميعًا فى يوم الميلاد رغم تفاوت السنين، وكلما تقدم العمر بالإنسان تقل أهمية عيد ميلاده، بل وتتحول إلى هاجس مقلق بدلًا من أن تكون حدثًا مفرحًا، رغم أن معدلات الأعمار قد ارتفعت بحيث أصبح سن التقاعد التقليدى وهو ستون عامًا أمرًا غير ذى موضوع، فهو يبدو أقرب إلى سن الأربعين منذ عدة عقود، فالرعاية الصحية وارتفاع مستويات المعيشة وارتقاء أنماط الاستهلاك والاكتشافات الجديدة، فضلًا عن الوقاية العلاجية والاهتمام بالبيئة، قد أدت كلها إلى تحسن أنماط الحياة وامتداد الأعمار على نحو غير مسبوق، حتى إن البعض يشكو من تزايد معدلات الإصابة بمرض الخرف (الزهايمر)، وفى ظنى أن الذى حدث هو أن الارتفاع فى معدلات العمر وزيادة عدد المسنين بشكل ملحوظ هو الذى أدى إلى ظهور المرض بمعدلات أوضح وبأرقام عالية، وأنا أعلم أيضًا أن من تقاليد القصر الملكى البريطانى أن تبعث الملكة ببرقية تهنئة لكل مواطن يبلغ المائة من عمره، ولقد كان لى خال يعمل طبيبًا فى اسكتلندا ثم إنجلترا، وكان متخصصًا فى طب المسنين، وكنت أندهش كثيرًا عندما يحكى لنا عن إصرار بعض العجائز على تلقى برقية الملكة ويصبحون فى حالة سباق مع الزمن وصولًا للعام المائة، وأنا أتذكر أن العم الراحل «أمين عبد النور»، والد صديقى وزميل دراستى الأستاذ «منير فخرى عبد النور»، وزير السياحة، ثم الصناعة والتجارة الأسبق، أتذكر جيدًا أن «أمين بك»- رحمه الله- كان يزورنى فى «فيينا» وهو يمخر عباب التسعينيات من عمره المديد الذى أكمل فيه المائة عام تقريبًا، ويحدثنى فى كل مرة عن أساليب الحياة التى تضيف إلى خبرات البشر أهمية التخلص من الفضلات والإفرازات جنبًا إلى جنبٍ مع التغذية السليمة طلبًا لصحة أفضل وعمر أطول، ولازلت أتذكر الاتصال اليومى من أستاذنا الراحل د. «محمود عبد الحافظ» الذى كان رئيسًا للمجمعين المجمع العلمى المصرى ومجمع اللغة العربية، حيث كان يتصل بى يوميًا قبل بلوغه المائة عام بأسابيع قليلة لإبلاغ مؤسسة الرئاسة بأنه يريد أن يحصل على (قلادة النيل) يوم بلوغه المائة عام، تتويجًا لتاريخ علمى حافل وإسهام جامعى مرموق، ولكن إرادة الله سبقت الجميع ورحل د. «محمود عبد الحافظ» قبل بلوغه المائة عام بأيام قليلة، أتذكر ذلك كله وقد حكى لى مؤخرًا «مارتن انديك»، الدبلوماسى الأمريكى الشهير، وسفير بلاده الأسبق فى إسرائيل، أن «هنرى كيسنجر» لايزال يتمتع بذاكرة خيالية رغم تجاوزه الخامسة والتسعين، ويتذكر التفاصيل الدقيقة للأحداث التى مرت وعلاقاته بالزعامات التى تعامل معها، خصوصًا الرئيس الراحل «محمد أنور السادات»، وها هو عيد ميلادى يحل اليوم فى أعقاب حالة إنفلونزا حادة ألزمتنى الفراش لفترة قصيرة وجعلتنى على يقين من أن مرور الزمن قد يرفع مستوى الدخل ويطيل الأعمار، ولكن الكثافة السكانية تؤدى فى الوقت ذاته إلى مزيد من تلوث البيئة وتغيير المناخ وظهور أمراض جديدة ربما كانت موجودة من قبل ولكن تقدم وسائل التشخيص قد أدى إلى بروز تأثيرها وزيادة الإحساس بوجودها، فالمرض الخبيث أصبح حاليًا فى الانتشار أقرب إلى حالات الإنفلونزا، بل ووصل إلى شرائح عمرية صغيرة نسبيًا، وإن كنت أعترف بأن نسبة الشفاء منه أصبحت ملحوظة، وهو أمر لم يكن متاحًا منذ عدة عقود، تلك كلها هواجس تحيط بيوم ميلادى أتذكرها من حين إلى آخر وأتأمل وأتفلسف ثم ينتهى الأمر بانتهاء المناسبة، فالإنسان ظلوم جهول كما وصفه الخالق فى القرآن الكريم.. مرحبًا بك يا عيد ميلادى، وأسأل الله أن أتمكن قبل الرحيل من أن أسجل ملف حياتى متكاملًا وشجاعًا وصادقًا فى سفر كبير يحمل اسم (الرواية).
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1342707