عندما ظهرت جماعة «الإخوان المسلمين» على السطح بشكل علنى بعد ثورة 25 يناير المجيدة ـ رغم أن عمر الجماعة كان قد تجاوز الثمانين عاماً ـ فإن الكثيرين خصوصاً من الأجيال الجديدة تساءلوا عن تاريخ الجماعة وأسباب نشأتها وتوقيت ميلادها، وارتباط ذلك بسقوط دولة الخلافة الإسلامية وانتهاء حكم «آل عثمان»، وظهرت اجتهادات كثيرة تشير إلى تأثر الجماعة فى نشأتها بالمحافل «الماسونية» أحياناً وميلاد الحركات «الأصولية» فى «أوروبا» حول ثلاثينيات القرن العشرين أحياناً أخرى، ورغم اهتمامى الشديد بمتابعة جماعة «الإخوان المسلمين» متابعة موضوعية لا تخلو من حياد أكاديمى بل تميل إلى البحث فى الجذور بدءاً من المرشد الأول الإمام «حسن البنا»، حتى وصولهم إلى سلطة الحكم فى «مصر» فى عام 2012، وأنا أعلم أن دعوة الإمام الراحل قد ولدت فى أحضان الطريقة «الحصافية»، وهى طريقة صوفية تنسب إلى الشيخ «الحصافى» من محافظة «البحيرة» ولايزال أبناؤهم وخلفاؤهم يواصلون نشاط الدعوة، وأظن أن شيخهم حالياً هو أحد رجال القضاء المصرى المحترمين. كلما حاولت الغوص فى تاريخ الجماعة والاستماع إلى بعض أقطابها مثل الراحل «د. فريد عبدالخالق» فإنه يتبادر إلى ذهنى شخصية لا أنساها وهى شخصية «محب الدين الخطيب» أحد الملهمين الأوائل لفكر الجماعة، باعتباره امتداداً مباشراً للشيخ «محمد رشيد رضا» التلميذ «السورى» المباشر للإمام «محمد عبده» مع الاختلاف بينهما، فقد كان الإمام «عبده» مجدداً عظيماً يزهو به التاريخ الإسلامى بينما لم يبرأ الشيخ «رضا» من مسحة تشدد جعلته أقرب إلى فكر الجماعة فيما بعد منه إلى رؤية الإسلام الوسطى المعتدل الذى بشر به الإمام «محمد عبده» وهو ابن «البحيرة» أيضاً التى خرج منها المرشد الأول للجماعة، وقصتنا مع ذلك القطب الإسلامى الكبير «محب الدين الخطيب» صنعتها الصدفة وحدها، فذات يوم من ربيع 1964 كنا مجموعة صغيرة من طلاب كلية «الاقتصاد والعلوم السياسية» يتقدمهم أقدمهم علمياً ودراسياً الطالب فى السنة النهائية «على الدين هلال» الذى كانت تربطه صلة طيبة بالإعلامى الراحل «أحمد فراج» ذى التوجهات الإسلامية المعروفة، والذى دعا ثلاثة من طلاب الكلية لنشاركه زيارته لـ«محب الدين الخطيب» فى مكتبته بمنزله فكان يوماً فريداً فى حياتى أضاء أمامى رؤية مبكرة لميلاد حركات «الإسلام السياسى» لدى روادها الأوئل،
ولقد كان «محب الدين الخطيب» رحمه الله يومها نموذجاً مبهراً فى ثقافته وبساطته وتقواه، يبشر بآراء محددة ويطرح أفكاراً فيها من تسامح الإسلام ما يليق برجل مثل «محب الدين الخطيب»، وهو الذى كان يصدر مجلة «الفتح» فى الفترة ما بين 1926 حتى 1954 ويجعل تاريخها بالتقويم الهجرى اعتزازاً بإسلاميته، ولقد ظهرت مؤخراً مجلة «سلفية» تحمل الاسم نفسه مع الفارق الكبير بين المجلة الأولى والمجلة الثانية، ولقد شرح لنا العلاّمة «محب الدين الخطيب» الكثير من ظروف النقلة النوعية من الإطار الإسلامى للحركة الوطنية المصرية إلى الإطار الوطنى الخالص للثورة الشعبية التى قادها «سعد زغلول» عام 1919 ورفع شعار «مصر للمصريين»، وقد لاحظت أن «محب الدين الخطيب» يتحدث عن محنة الإخوان بحياد كامل وكأنه مشاهد من بعيد، ربما بسبب الظروف السياسية وقتها التى لم تكن تسمح له ولغيره بأكثر مما قال،
ولقد أمطرناه بالأسئلة من قبل الداعية الراحل «أحمد فراج» الذى كان شديد الإعجاب بالشيخ «محب الدين الخطيب» ويلفت نظرنا إلى قيمته الكبيرة عند التأريخ للعالم الإسلامى وحركاته المعاصرة، وتفرغ «على الدين هلال» كدأبه دائماً للتحليل السياسى للظاهرة وربطها بنظم الحكم المتعاقبة، وكان همى شخصياً أن أملأ الفجوات التاريخية التى أراها قائمة بين فترة سقوط الخلافة الإسلامية وميلاد جماعة «الإخوان المسلمين» عام 1928، وكيف أن ميلاد الجماعة قد بدا فى وقتها داعماً لطموحات الملك «فؤاد» فى الخلافة، التى كان قد أجهضها قبل ذلك بسنوات الشيخ «على عبدالرازق» بكتابه الشهير «الإسلام وأصول الحكم»، ولعل ذلك يفسر الانحياز التاريخى لجماعة «الإخوان المسلمين» إلى جانب «العرش العلوى» حتى اغتيال الإمام «حسن البنا» بمباركة من القصر الملكى فى نهاية أربعينيات القرن الماضى، عندما كثرت خطايا الجماعة واعتمدت العنف أسلوباً فى الدعوة وخرجت بشكل واضح عن الإطار الذى كان مرسوماً لها، وعلى كل من يريد أن يعرف أكثر عن «محب الدين الخطيب» وفكره ورؤيته أن يتصفح أعداد مجلة «الفتح» التى لفت نظرى إليها زميل أكاديمى يحتفظ بأعدادها كاملة.. رحم الله «محب الدين الخطيب» وعصره، وتحية لعلمه وبساطته فى وقت عز فيه التواضع وشاع فيه التعصب واختفت منه السماحة.
جريدة المصري اليوم
29 يناير 2014
https://www.almasryalyoum.com/news/details/385335