التقيته منذ أسابيع قليلة وعاتبته لماذا لم يحضر حفل توديع زميلنا العزيز الدكتور «أحمد يوسف»، مدير معهد الدراسات العربية، قبيل سفره إلى «فرنسا» لإجراء عملية «زرع كبد»، وقد اجتازها بنجاح، واستجاب الله لدعائنا لذلك العالم الجليل، وقد رد علىّ الدكتور «كمال المنوفى» أنه كان يود لو كان تكريم رفيق دراسته وزميل مهنته تحت مظلة الكلية الأم «الاقتصاد والعلوم السياسية»، وليس تحت مظلة تيار سياسى كما حدث، ولقد كان ذلك اللقاء العابر بينى وبين الدكتور «المنوفى» هو الأخير فقد نعى الناعى واحداً من أكثر أساتذة العلوم السياسية استقامة فى الخلق وغزارة فى العلم ودقة فى البحث، ولقد تذكرت المقولة الريفية (كيف حال مريضكم؟ فأجابوا إن سليمنا مات.)
أتم الله شفاء ابن «مصر» البار «د.أحمد يوسف»، وجعل العصامى العظيم «د.كمال المنوفى» فى مقعد صدق عند مليك مقتدر، وترجع صلتى بالدكتور «كمال المنوفى» إلى فترة التحاقه بكلية «الاقتصاد والعلوم السياسية»، وكنت أنا بالسنة النهائية قبيل التخرج، وعرفته شاباً ريفياً نقياً تفوح منه رائحة دأب أبناء «المنوفية»، وحرصهم على تحقيق الهدف، ولا نزال نتذكر رسالته المؤثرة للرئيس الراحل «جمال عبدالناصر» عندما كتب إليه الدكتور «المنوفى» شاكياً سوء حالته المادية بعد انقطاع «منحة التفوق»، التى كان يحصل عليها لأسباب كانت تبدو خارجة عن إرادته، يومها قرر «عبدالناصر»، نصير الفقراء، رائد العدالة الاجتماعية، أن تعود المنحة للطالب «كمال المنوفى»، وتستمر معه حتى تخرجه، بل أضاف إليها بعض ما يسدد ديونه، والقيمة العلمية للدكتور «كمال المنوفى» ليست محل جدال، وقد اقتربت منه كثيراً، وكان بالنسبة لى أخاً أصغر فلقد حضرت له مناقشات بعض تلاميذنا المتقدمين لنيل درجتى الماجستير والدكتوراه، وبهرنى كثيراً تعمق «كمال المنوفى» فى مناهج البحث وإدراكه فقه الأولويات فى التفكير العلمى، وحرصه الواضح على تحصيل الأفكار، وتوثيق المعلومات، وعندما كان عميداً لكلية «الاقتصاد والعلوم السياسية» خلفاً لأستاذه الدكتور «على الدين هلال» مضى العميد الجديد على نفس الدرب فاستمر تألق كلية «الاقتصاد والعلوم السياسية»، وظلت محتفظة بتفردها بين كليات الجامعات المصرية، وما أكثر المداعبات، التى كانت بينى وبين الدكتور «كمال»، رحمه الله، فلقد كان يطلب منى فى عصر الرئيس الأسبق «مبارك» أن يتم تعيينه «محافظاً» بحكم صلته بالريف، وإحساسه بالمواطن العادى، وانتمائه لتراب «مصر»، لكنه كان يطلب تحديداً أن يكون محافظاً «للوادى الجديد» فقد كان يسعى إلى شىء يشبه «استراحة المحارب» بعد معاناة العمر وضغوط الحياة، ثم اتصل بى فى مرحلة تالية يأمل أن يكون عضواً فى «مجلس الشورى»، لكن الأمرين لم يتحققا، لأن «كمال المنوفى» لم يكن يجيد السعى نحو المناصب، ولا يرتبط بمراكز القوى فى ذلك العصر رغم استحقاقه الكامل أرفع المناصب وأعلى الدرجات، وعندما تأملت شريط حياة ذلك العالم المناضل شعرت بأن الحياة كانت قاسية عليه، وجعلته دائماً فى مواجهة مع الظروف المحيطة حوله، والتحديات القادمة إليه، خصوصاً أن الرجل كان تلقائياً فى آرائه واضحاً فى أفكاره مع طيبة فى القلب، وسمو فى النفس، ورقى فى الضمير، وعندما جلست فى دار المناسبات بمسجد «أسد بن الفرات» بالدقى لتقديم العزاء لأسرته وزملائه وتلاميذه وجدت أن الكل يعزى الكل، وأن الحزن يلف الجميع، بل رأيت الدموع فى عيون الكثيرين، وآمنت لحظتها بأنه قد آن للفارس أن يترجل، وأن يبقى فى «استراحة المحارب» إلى يوم البعث، رحم الله «كمال المنوفى»، وعوض أسرته الصغيرة وجيله الكبير وتلاميذه، وهم كثر، خيراً عن رجل جاء من القرية المصرية ليضىء مصابيح العلم والمعرفة للآلاف من طلابه ومريديه. رحمه الله وهو يسكن ثرى «مصر»، وينام فى أبدية وسلام.
جريدة المصري اليوم
22 يناير 2014
https://www.almasryalyoum.com/news/details/379666