ترددت فى الكتابة عنه لأنه لم يمض على كرسيه البابوى للكنيسة المصرية إلا عاماً أو بعض عام، كما أنه جاء بعد البابا «شنودة الثالث» الذى شغل المقعد لما يزيد على أربعين عاماً؛ فأصبحت المقارنة بينه فى سنواته الأخيرة وخلفه فى سنته الأولى مقارنة غير عادلة؛ فقد كان حضور البابا «شنودة» طاغياً على الساحتين الدينية والسياسية؛ حتى إننى كنت أشفق على البابا الجديد «تواضروس» من تلك االتركة الضخمة والمقارنة الظالمة، ولكن أجواء أعياد الميلاد فى مستهل عام جديد دعتنى للكتابة عنه، خصوصاً أننى أعرفه شخصياً كما أن أداءه فى هذه الفترة القصيرة من ولايته هو موضع إعجاب بل دهشة وانبهار،
فبرغم الظروف الصعبة التى جاء فيها فإنه استطاع أن يقدم دوره على المستويات المحلية والإقليمية والدولية فى روية وهدوء، وبدأ يترك بصمات قوية على الساحة الوطنية رغم أن الرجل كان حذراً ولا يزال فى التعامل مع الحياة السياسية المصرية؛ فلا هو انغمس فيها بشدة ولا ابتعد عنها تماماً فى الوقت ذاته، فأضحى حضوره وطنياً أكثر منه سياسياً، وجاءت تصرفاته فى مجملها مصرية وليست طائفية ولعب على امتداد تلك السنة دوراً واضحاً ابتعد فيه بالكنيسة قدر الإمكان عن أنواء الأحداث المعقدة وأعاصير المواقف الحدية، ولقد كان تصدره المشهد فى الثالث من يوليو 2013 مع الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر تأكيداً لمعنى وطنى أكثر منه فعلاً سياسياً، كما فصل البابا الجديد بذكاء بين هيبة الكنيسة الأرثوذكسية وحرية الأقباط فى الحركة السياسية باعتبارهم مواطنين دون ولاية عليهم إلا فى الجانب الروحى ودون وصاية إلا ما كان متصلاً بمبادئ الكنيسة وتعاليم المسيحية.
لقد جمعتنى بالرجل مناسبات كثيرة وتشرفت بقبول دعوة الغداء معه يوم حفل تنصيبه، وربما كنت المصرى المسلم الوحيد فى ذلك اللقاء؛ فالبابا الجديد تلميذ مباشر للحبر المعلم الأنبا «باخوميوس» مطران «البحيرة» الذى عبر بالكنيسة من «شنودة الثالث» إلى «تواضروس الثانى» بحكمة واقتدار. ليت الوطن المصرى كله عبر مرحلته الانتقالية بنفس الإيقاع والتوازن، وحيث ربطتنى علاقات وطيدة بالأنبا «باخوميوس» فقد امتد الأمر إلى تلميذه الذى جاءت به القرعة الإلهية ليجلس على كرسى الأحبار الأجلاء من بابوات الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، ولقد دارت بينى وبين البابا «تواضروس الثانى» أحاديث فى مناسبات مختلفة، وعبر لى الرجل عن حرصه على قراءة مقالاتى لأنه يحب فيها لغة النقاط المحددة التى توضح كل فكرة باستقلال وجدية، كما أننا قضينا مرحلة الطفولة والشباب فى مدينة واحدة رغم أن عائلته تنتمى أصلاً إلى «المنصورة» فى «إقليم الدقهلية» إلا أن تربيته ونشأته كانت فى حى «أبوعبدالله» بمدينة «دمنهور» وأنا شخصياً خريج مدرسة «أبوعبدالله الابتدائية» فى خمسينيات القرن الماضى؛ لذلك فنحن معا- رغم تفاوت الأعمار- نعرف نفس البشر لأن من يتعامل مع ابن «دمنهور» الحقيقى يسهل عليه التعامل مع سائر الناس بعد ذلك، وسوف يذكر التاريخ للبابا «تواضروس الثانى» مواقفه الرائعة عندما امتدت يد الغدر والإرهاب إلى الكنائس المصرية حرقاً وتدميراً؛ فوقف الرجل فى شموخ مصرى مفضلاً سلامة الوطن قبل مبانى الكنائس،
مؤكداً الارتباط الأصيل بالأرض الطيبة والولاء للكنانة التى لا نعيش فيها ولكن تعيش فينا على حد تعبير البابا «شنودة الثالث» ومن قبله «مكرم عبيد باشا»، ولقد أجريت اتصالاً هاتفياً بقداسة البابا «تواضروس الثانى» غداة تلك الأحداث المؤسفة، وكانت حكمته الواضحة فى ذلك الاتصال التليفونى الذى استمر لقرابة عشرين دقيقة يشرح لى فيها جهوده الحكيمة لاحتواء الموقف دولياً؛ رافضاً فى وطنية وإباء الاستقواء بأى طرف أجنبى، مؤكداً أن مصر بمسلميها ومسيحييها تواجه الموقف نفسه، قائلاً «إن الكنائس سوف يعيدها المصريون مسيحيين ومسلمين إلى طبيعتها، أما الوطن فلن يخدش أحد تماسكه ووحدة شعبه»، ولابد أن أسجل هنا أن موقف المسيحيين المصريين منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 هو موقف تاريخى يستحق الإشادة لأنهم تصرفوا أمام كل الظروف وفى مواجهة أشد التحديات وأصعب المواقف كمصريين أولاً قبل كل شىء، وأثبتوا أننا نسيج واحد لأن المعاناة مشتركة والتحديات واحدة والأحداث المؤسفة تنسحب على الجميع، بل إننى أظن أن الروح المصرية الحقيقية قد تجلت عندما حاول العنف السياسى والإرهاب المستورد أن يضربا الوحدة الوطنية المصرية، ولكن الذى حدث أنهاـ فى ظنى ـ ازدادت قوة وتماسكاً حيث استحق مسيحيو مصر والكنيسة الأرثوذكسية تحديداً لقب أبناء الوطنية المصرية العريقة حتى رشحتهم بعض الدوائر الأجنبية والمحلية لجائزة «نوبل» للسلام.. تحية للبابا «تواضروس الثانى» وتهنئة له ولأشقائنا بعيد الميلاد المجيد.
جريدة المصري اليوم
1 يناير 2014
https://www.almasryalyoum.com/news/details/369746