فى منتصف سبعينيات القرن العشرين أرسل نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية حينذاك، السيد «إسماعيل فهمى» تعميماً على إدارات الوزارة والبعثات فى الخارج للاطلاع على مقال لصحفى فى الأهرام اسمه «مكرم محمد أحمد» وكان الموضوع عن (مستقبل العلاقات بين العرب وإسرائيل) ويومها التفتنا جميعاً إلى ذلك الكاتب الصحفى النابه الذى يمتلك جرأة الكلمة وسلاسة العبارة ووضوح الفكرة، ثم مرت الأيام حتى عرفته عن قرب بعد ذلك من خلال عملى فى مؤسسة الرئاسة فى ثمانينيات القرن الماضى مفكرًا متفردًا، صاحب رأى مستقل، يغرد أحياناً خارج السرب ويطرح آراءه فى اقتحام وجرأة، وكنا نتوقع له أن يكون رئيساً لمجلس إدارة وتحرير «الأهرام»، كما توقعنا نفس الأمر بعد ذلك للكاتب الصحفى الكبير «صلاح منتصر»، ولكن طول المدة التى قضاها الأستاذ «إبراهيم نافع» فى موقعه والتى جاوزت ربع قرن من الزمان أدت إلى أن يتولى «مكرم محمد أحمد» رئاسة مجلس إدارة «دار الهلال» ورئاسة تحرير مجلة «المصور»، وأن يتولى «صلاح منتصر» رئاسة مجلس إدارة «دار المعارف» ورئاسة تحرير مجلة «أكتوبر»، وقد واجه الأستاذ «مكرم محمد أحمد» متاعب ضخمة فى «دار الهلال» بسبب أوضاعها المالية السيئة وتراكم مشكلاتها عبر السنين، لكنه استطاع أن يجعل منها شيئاً مختلفاً وبرز فيها كُتاب واعدون من مدرسة «مكرم» مثل «حمدى رزق» والروائى «يوسف القعيد» و«حلمى النمنم» و«عبدالقادر شهيب» وغيرهم عشرات، ولا شك أن «مكرم محمد أحمد» أستاذٌ فى الصحافة المصرية عمل مع الأستاذ «هيكل» سنوات ومع غيره أيضاً فتجمعت لديه خبرات وتراكمت عنده تجارب، وكانت علاقاته بالسلطة الحاكمة فريدة فهو لا يقترب ولا يتزلف، لكنه أيضاً لا يختفى ولا يبتعد!
وأشهد أن الرئيس الأسبق «مبارك» كان يحمل له تقديراً خاصاً لإدراكه مكانة ذلك الكاتب الكبير وقيمته، لكن ذلك لم يمنع «مكرم» أبداً من أن يكون مستقل الرأى صاحب موقف واضح دائماً، وقد اهتم فى حياته الصحفية بالظاهرة الإسلامية فى «مصر» ووقف داعماً لمشروع «المراجعات» لسجناء الجماعة الإسلامية وغيرهم حتى تعرض لمحاولة اغتيال آثمة اهتز لها المجتمع المصرى كله، لكن ذلك لم يؤثر فى شجاعته وتمسكه بأفكاره ودفاعه عن آرائه، وعندما انتهت دورة الأستاذ «إبراهيم نافع» «نقيباً للصحفيين» بعد فترتين لا يجوز له بهما إلا الانقطاع ثم العودة مرة أخرى إذا شاء فاتجهت الأنظار إلى مكرم محمد أحمد «نقيباً للصحفيين»، وأتذكر أن مسؤولاً كبيراً فى ذلك العهد لم يكن متحمساً «لمكرم» لأن «مكرم» شديد المراس، وليس شخصية طيّعة كما هو المطلوب، فاتصل بى الأستاذ «مكرم» وأبلغنى عن رغبة جموع الصحفيين فى ترشحه لمنصب النقيب، فأبلغت بدورى الرئيس الأسبق «مبارك» الذى رحب من جانبه لعلمه بمكانة الأستاذ «مكرم محمد أحمد» حتى إنه كان يطلب منه صياغة بعض خطبه العامة فى المناسبات المختلفة لأن قلم «مكرم» سلس ورصين، وقد أصبح «مكرم محمد أحمد» نقيبًا للصحفيين لعدة مرات ولم تكن مهمته سهلة،
فقد تعرض لمشكلات عديدة وشهد انقسامات داخل مجلس النقابة، لأنه مدافع عنيد عن وجهة نظره ولا يستسلم لرأى لا يؤمن به، وقد دخل «مكرم» فى صدام مع بعض الاتجاهات والقوى داخل النقابة، الأمر الذى قرر معه أن يترك منصب النقيب، ولقد التقيت واحدًا من أبرز خصومه الذى قال لى (نعم اختلفنا مع مكرم لكنه قيمة وقامة لا يجادل فيها أحد)، ومن النوادر التى أتذكرها أننا كنا فى لقاء مع الرئيس الراحل «حافظ الأسد» فى «دمشق»، فاختلط عليه الأمر بين الأستاذين الراحل «أنيس منصور» والأستاذ «مكرم محمد أحمد»، وواضح أن الرئيس «حافظ الأسد» كان يتذكر يومها مواقف الخصومة مع الرئيس الراحل «أنور السادات» ويبحث عن «أنيس منصور» بين الحاضرين خالطًا بينه وبين «مكرم محمد أحمد»، ويسعدنى كثيرًا- مثل غيرى- أن نرى قلم «مكرم محمد أحمد» يسهم فى الصحافة المصرية والعربية بالكلمة الحرة والفكرة الجريئة ويواصل عطاءه بنفس الزخم الذى كان عليه فى شبابه، فتحية له ولجيله من مدرسة الصحافة المصرية بتاريخها المضىء وسجلها الحافل ومكانتها المرموقة.
جريدة المصري اليوم
18 ديسمبر 2013
https://www.almasryalyoum.com/news/details/357118