أزهرى من طراز رفيع، ونموذج رائع لرجل الدين المسلم فى سماحته وبساطته وتواضعه، كان مديراً للمركز الإسلامى فى «لندن» فى مطلع سبعينيات القرن الماضى، وعندما بدأت عملى فى القنصلية المصرية العامة هناك عام 1971 سعى إلىَّ ذلك الداعية الجليل موضحاً لى علاقته القوية بـ«عم» والدتى الذى كان عالماً أزهرياً معروفاً فى «رمل الإسكندرية»، وبدأت العلاقات تتوطد بينى وبينه، حيث كنت مبهوراً بعلمه ودأبه، إذ كان يدرس فى ذات الوقت للحصول على الدكتوراه من «جامعة لندن» أثناء عمله، كما أننى لاحظت أنه يربى بناته تربية إسلامية راقية ليس فيها تزمت وانغلاق وليس فيها أيضاً تسيب ولا مبالاة رغم وجودهن فى العاصمة البريطانية بما لها وما عليها،
وتواصلت حبال المودة بينى وبين ذلك العالم المبهر الذى أصبح أميناً عاماً لـ«مجمع البحوث الإسلامية» بعد عودته من مهمته التى امتدت لعدة سنوات فى أعرق مركز إسلامى مصرى فى الخارج، والذى كانت لى مع إعادة إنشائه قصة مثيرة سوف أحكيها فى العدد القادم عند الكتابة عن آخر سفير مصرى عملت تحت إمرته فى «لندن» وهو السفير «سميح أنور» ـ أطال الله فى عمره ـ أعود إلى ذلك القطب الإسلامى المتميز «د.عبد الجليل شلبى» الذى كانت له مقالاته المنتظمة فى صحيفة «الجمهورية» خلال ثمانينيات القرن الماضى قبل أن يرحل عن عالمنا تاركاً الذكر الحسن والاسم الطيب والمكانة الرفيعة، ومازلت أتذكر قصة لن أنساها أبداً وهى أنه عندما كان يتردد على مكتبة «المتحف البريطانى» لينهل من أمهات الكتب دعماً لأطروحته فى الدكتوراه فوجئ ذات يوم بالموظفة الإنجليزية الشابة فى «القسم العربى بالمكتبة» تبكى بحرقة، فسألها عن السبب فقالت له إن مخطوطاً عربياً إسلامياً كبيراً ومهماً قد ضاع منها، ولا تستطيع أن تجد له أثراً بين الكتب الكبرى رغم أنه مدرج فى السجلات لديها ـ وأظنه كان كتاب «الفتوح المكية» لابن عربى ـ وقالت له إنهم يقدرون ثمن الكتاب بمبلغ كبير لا أستطيع دفعه، فقال لها ذلك الإمام المصرى المستنير لا تثريب عليك يا ابنتى فسوف أبحث عن الكتاب معكِ، فالأمر بالنسبة لى أسهل باعتبار العربية لغتى الأولى، وفعلاً شمّر الرجل عن ساعديه وظل لعدة ساعات يبحث معها بين المخطوطات حتى عثر على الكتاب فأجهشت الفتاة بالبكاء، وقالت له مباشرة إننى أريد أن أقرأ عن دينكم «الإسلام» الذى دفع رجلاً بمكانتك ومشغولياتك لأن يتفرغ لإنقاذ مستقبل فتاة صغيرة فى عمر ابنته ويحل لها مشكلة كادت تطيح بوظيفتها، ولقد عرفت أن تلك الفتاة الإنجليزية قد دخلت الإسلام بعد ذلك بعدة شهور عن اقتناع لأنها قالت إن نموذج الشيخ الصالح «د.عبدالجليل شلبى» يجب أن يحتذى به، فإذا كان دينه يدعوه لمساعدة أمثالى على غير معرفة فى الظروف التى كنت فيها فإننى أكون مشدودة إلى ذلك الدين الذى يتبعه، وكلما التقيت ذلك الإمام التقى فى «مصر» بعد عودتنا إلى الوطن رأيت البشاشة تطل من عينيه والابتسامة تعلو شفتيه فى صفاء العارفين بالله المؤمنين بالتسامح دستوراً للدين والدنيا.
إن ذلك النموذج من علماء المسلمين الذين لا يعرفون التزمت ولا يميلون إلى التشدد ويبرزون بساطة الدين الحنيف وضرورة احترام اتباعه لغيرهم مع اعتناق فلسفة التسامح وروح المودة، إن ذلك الشيخ الجليل يذكرنى بسلسلة العلماء الصالحين ممن تميزوا برحابة الصدر وسعة الأفق وسماحة النفس بدءاً من الإمام المجدد «محمد عبده» مروراً بالشيخ «الباقورى» وصولاً إلى علماء العصر من الدعاة الثقات الذين يعرفون أن الدعوة تكون بالحكمة والموعظة الحسنة وأن الجدل يكون بالتى هى أحسن!
جريدة المصري اليوم
22 مايو 2013
https://www.almasryalyoum.com/news/details/197281