لا أظن أن أديبًا أو روائيًا قد حفر طريقه فى الصخر وعانى شظف العيش مثلما هو الأمر بالنسبة للراحل «خيرى شلبى»، لقد كنت أقرأ له من سنواتٍ طويلة إلا أننى لم أتعرَّف عليه شخصيًا إلا عندما فوجئت ذات يوم بدراسةٍ رصينةٍ كتبها فى مجلة «الإذاعة والتليفزيون» تحت عنوان «المفهرس» يتحدث فيها عن شخصى المتواضع ضمن سلسلة كان يكتبها عن عدد من الشخصيات العامة فى جميع المجالات،
وراعنى إلى حد الذهول أنه كتب عنى أشياء أكاد أكتشفها فى ذاتى بصعوبة، فقد قال إننى «شديد التنظيم» إلى حد أن أكون فيه كما يقول عنى «نمكى»، وأننى أجدول ذهنى وفقًا لترتيب الأولويات بشكل يومى «كالأرشيف المنظم» ومضى على هذا السياق كأبرع ما يكون المحلل النفسى أو أستاذ الدراسات السلوكية، ولقد بهرنى ما قرأت فبدأت أهتم باقتناء رواياته، حيث أدركت أننى أمام علامة مضيئة فى الأدب المصرى الحديث، ثم ساقتنى الأقدار فى مناسبات مختلفة للقاءات معه كان بعضها من خلال العضوية المشتركة لنا فى «المجلس الأعلى للثقافة» ولكن آخر لقاءٍ جمعنا كان فى صالون السيدة «شمس الإتربى» فى إحدى ضواحى «الجيزة»، ولفت نظرى أنه منهك الصحة عليل الجسد تبدو على وجهه ندبات الزمن وعلى شعره (المنكوش) دلالات العبقرية التى لا تخلو من مسحة «بوهيمية» وكان واضحًا لى يومها أن الرجل الذى كتب روائعه الخالدة ـ وهو مقيمٌ فى أحد القبور الكبيرة بمنطقة «المدافن الأثرية» فى «القاهرة»
ـ وكأنما كان يستلهم من رائحة الموت رحيق الحياة وروح الإبداع، ولا عجب فهو نموذج لأدباء الأقاليم الذين سعوا فى سن مبكرة إلى العاصمة المتوحشة يعرضون بضاعتهم الفكرية ويقدمون موهبتهم الأدبية على استحياء أحيانًا وبقلق أحيانًا أخرى لأنهم يدركون أن «القاهرة» تستأثر بالطيبات وتترك للأقاليم أحيانًا الفتات! ولقد حكى لى الشاعر المرموق «سيد حجاب» عن المعاناة التى عاش بها «خيرى شلبى» خصوصًا فى سنوات شهرته الأولى وهو يشق طريقه بصعوبةٍ بالغة وكيف كان يقضى الليل على مقهى «محطة مصر للسكك الحديدية» لأنه لا يجد مأوىً يحتويه فى ليل العاصمة المصرية،
وكيف أنه كان يزور زملاءه الأدباء «القاهريين» عندما يحل المساء حتى يكون له مكان للمبيت ولو جالسًا مغمض العينين يطلب الراحة من عناء السفر ومصاعب الحياة، ولقد اكتشفت أن «خيرى شلبى» له مريدوه وهم كُثُر ومن جميع المستويات الثقافية والاجتماعية، ويشعر الجميع بتفرده الروائى وعمق رؤيته الإنسانية ومحاكاته الرائعة للأفكار والشخوص والمواقف، ولقد رحل «خيرى شلبى» على نحوٍ غير متوقع رغم إدراكنا لظروفه الصحية وآلامه الجسدية، فقد كانت رحلة العمر مرهقة وكان الطريق وعرًا، فكانت النهاية الحتمية، حيث تحفل القبور بالمبدعين دون استثناء!.. إننى إذ أكتب عن «خيرى شلبى» فإننى أقدِّم قيمة مصرية رفيعة لرجلٍ جاء من طين «الدلتا» إلى العاصمة يحمل هموم عصره ومعاناة جيله وأحلام مستقبله.
جريدة المصري اليوم
3 أبريل 2013
https://www.almasryalyoum.com/news/details/195793