عندما أكتب عن شخصية بذاتها فإننى ألتزم بضرورة معرفتى المباشرة بها وتعاملى معها حتى أكون صادقاً وأميناً من خلال «شاهد عيان»، لذلك كتبت من قبل عن السيدة «تحيّة كاظم» زوجة الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر»، وها أنذا أكتب عن السيدة «جيهان رؤوف» قرينة الرئيس الراحل «أنور السادات»،
وقد أكتب ذات يوم ـ بكل حياد وتجردـ عن السيدة «سوزان ثابت» حرم الرئيس السابق «محمد حسنى مبارك»، فلقد رأيت الثلاث عن قرب وأستطيع أن أعطى شهادتى التاريخية عنهن دون أن يحكمنى الهوى أو يكون لى غرض، خصوصاً أن الشعب المصرى لم يتحمس كثيراً لدور «السيدة الأولى» ـ كما كان يطلق عليها ـ لأن دور المرأة لا يزال للأسف على هامش الثقافة العربية الإسلامية. نعود إلى حديثنا عن السيدة «جيهان السادات» المعروفة بالذكاء الاجتماعى والقدرة على التواؤم مع الظروف مهما كانت صعبة والتعامل مع الشخصيات مهما كانت بسيطة، وعلى الرغم من نصفها الأجنبى مثلما هو الأمر بالنسبة لقرينة الرئيس السابق «مبارك» أيضاً، إلا أن السيدة «جيهان» تمثل الشخصية المصرية حتى النخاع وتعبر عنها بعمق وتتغلغل فى جوهرها باقتدار، كانت أول مرة أراها مباشرةً عندما كنت نائباً للقنصل فى «لندن» عام 1972،
حيث دعانى القنصل العام السفير «محب السمرة» ـ وهو من أكثر الدبلوماسيين كرماً ـ إلى مائدة غداء صغيرة فيها السيدة «جيهان السادات» قرينة رئيس الجمهورية حينذاك وابنتها الكبرى بحضور الكاتب العبقرى «يوسف إدريس» الذى كان متواجداً فى «لندن» حينذاك للعلاج، وقد بادرتنى السيدة «جيهان السادات» عندما لاحظت صغر سنى فى ذلك الوقت قائلةً «حضرتك تعمل هنا فى القنصلية؟» واندهشت أن زوجة الرئيس تخاطبنى وأنا الدبلوماسى الصغير بتعبير «حضرتك»، فقلت لها إننى «سكرتير ثالث» و«نائب القنصل»، فقالت لى «وأين زوجتك؟» فقلت لها إنها فى «القاهرة» استعداداً لاستقبال وليدتنا الأولى، وعند انتهاء الغذاء طلبت من سكرتيرها الخاص أن يأخذ رقم منزل والد زوجتى فى «القاهرة» حتى تتصل بها بعد العودة للاطمئنان عليها! وبهرتنى تلك المعاملة الراقية من زوجة رئيس الدولة المصرية، وذات مساء بعدها بيومين كنت أحضر حفل استقبال على شرفها وكان معى الوزير مفوض «يحيى سامى» الذى كان متزوجاً من السيدة «عواطف هانم» التى تمتّ بقرابة مباشرة للسيدة «تحية كاظم» قرينة الرئيس الراحل «عبدالناصر»،
فبادرت بتقديمه للسيدة «جيهان السادات» فقال لها بتلقائية «لقد التقينا من قبل مع سيادة الرئيس» فقالت له إننى لا أتذكر أن الرئيس «السادات» قد التقى بك فبادرها بشىء من عصبية ذوى الأصول التركية قائلاً لها «إننى عندما أقول الرئيس فإننى أقصد الرئيس (عبدالناصر) ولا أحد سواه!»، وهالنى الموقف وتصورت أن صداماً وشيكاً سوف يحدث ولكننى فوجئت بالسيدة الحصيفة تبتسم فى أدب شديد وتدعوه لأن يعطيها شرف أخذ صورة فوتوغرافية لها معه! وانقلب الرجل مائة وثمانين درجة، وكان حديثه طوال الطريق ونحن عائدان بسيارتى يدور حول مجاملة هذه السيدة وذكائها الواضح، وظل يردد تلك القصة طوال فترة علاجه فى العاصمة البريطانية، ثم جمعنى بهذه السيدة الذكية لقاء آخر أثناء زيارتها زوج شقيقتها ابن محافظتى «البحيرة» الراحل الأستاذ «محمود أبو وافية» الذى كانت تعتز كثيراً به وبأسرته، وذلك أثناء علاجه فى«لندن»، وحين رحل الرئيس «السادات» عن عالمنا قبلت السيدة المتألقة الانزواء تماماً والاكتفاء بالتدريس باعتبارها أستاذة كرسى «السلام» بإحدى الجامعات الأمريكية المهمة،
وظلت تزور الوطن من حين لآخر معتزة بصديقاتها، قريبة من أولادها وأحفادها، خصوصاً أن لديها ابناً يقطر أدباً ورقَّة هو المهندس «جمال السادات»، وقد حكت لى الأستاذة الدكتورة «زينب السبكى»ـ رائدة بنوك الدم فى مصر والتى كانت رئيسة لجمعية الصداقة المصرية النمساوية، ثم شرفتنى بعرض ذلك الموقع علىّ فور عودتى من «فيينا» كسفير لبلادى هناك وقبلت هى طواعية أن تكون نائبةً لى ـ حكت لى ذات يوم أنها قررت بعد مرور «الأربعين» على رحيل الرئيس «السادات» أن تدعو السيدة «سوزان مبارك» إلى منزلها فى «الجيزة» لغداء على شرفها وقررت أيضًا كنوع من الوفاء أن تدعو السيدة «جيهان السادات» إلى ذلك الحفل، والعجيب أن السيدة «جيهان» قبلت تلك الدعوة بكل سماحة ورضا وهى التى كانت «السيدة الأولى» منذ أقل من شهرين قبلها، بل الغريب أيضاً والرائع فى الوقت ذاته أن وقفت فى استقبال السيدة «سوزان» كمواطنة مصرية تستقبل زوجة «رئيس الدولة» بلا عقدٍ أو حساسيات! وتلك فى ظنى هى القيمة الحقيقية للسيدة «جيهان السادات» فهى قادرة على التصرف اللائق فى الوقت المناسب، وقد كنت أحضر حفل التخرج فى المدرسة الأمريكية بالقاهرة منذ سنوات قليلة وكانت السيدة «جيهان السادات» موجودة بالحفل أيضاً تشهد تخرج أحد أحفادها ودعانا مشكوراً صاحب المدرسة ومديرها اللبنانى «الأستاذ وليد أبو شقرا» للمشاركة فى تسليم الشهادات للخريجين والخريجات، وفى اليوم التالى تلقيت اتصالاً رسمياً للتساؤل عن سبب وجودى فى تلك المناسبة! وقلت بوضوح إن ابن صديق عمرى الدكتور «حمزه الخولى» كان أحد الخريجين فى ذلك اليوم فكان طبيعياً أن أشاركه تلك المناسبة العزيزة على قلب أى أب، ولقد رددت على المصدر الرسمى أننى أعرف من الذى أبلغ «لمراجع العليا» بتلك المناسبة، وذكرت اسم رجل أعمال كبير كان حاضراً وهو الذى ترك مصر قبل ثورة 25 يناير بأيام ولا يزال اسمه وثروته مصدراً لجدلٍ لا يتوقف، وكلما التقيت السيدة «جيهان السادات» فى إحدى المناسبات أو حتى المطارات شعرت بأننى أمام سيدة رائعة ولا عجب فهى «سيدة من مصر»، وقد جعلت من هذه العبارة عنواناً لتاريخ حياتها وكتاب سيرتها.. أطال الله فى عمرها.
جريدة المصري اليوم
27 مارس 2013
https://www.almasryalyoum.com/news/details/195551