لم يكن «رجاء النقاش» هو الكاتب الصحفى والأديب الرصين والناقد الفذ فحسب، لكنه كان إنساناً رائعاً يتميز بدفء المشاعر ورقة الإحساس ودقة البحث فى التفاصيل، فلقد أجلى الرجل كثيراً من علامات الاستفهام فى تاريخنا السياسى والأدبى بدراساته الرصينة وكتبه الباقية، ومازلت أتذكر أن كتابه الشهير «العقاد بين اليمين واليسار» قد أفادنى كثيراً عند إعدادى أطروحة الدكتوراه حول «الأقباط فى السياسة المصرية»، وكان فيها تركيز على دور السياسى المصرى الراحل «مكرم عبيد».
وأتذكر أن ما جاء فى ثنايا كتابه ودراساته الأخرى كان مرجعاً كاشفاً لى عن الأجواء الفكرية والأدبية فى الفترة الليبرالية من التاريخ المصرى الحديث (1919ـ 1952)، ولقد ربطتنى بذلك الراحل الكبير علاقات مودة متصلة فقد كتبت ذات يوم مقالاً فى «الأهرام» بعنوان «فى جدوى الكتابة» تحدثت فيه عن انصراف المصريين عن القراءة بل العرب عموماً، وأن نسبة ما يُقرأ مما يُكتب ضئيلة للغاية، وفوجئت بالرجل بعدها بأيامٍ قليلةٍ يجعل عنوان مقاله الأسبوعى فى «الأهرام» هو: «مصطفى الفقى وجدوى الكتابة»، وقد أعطانى الرجل ربما أكثر مما أستحق، وعالج القضية من زوايا فكرية وتاريخية وسياسية تستحق التأمل والدراسة وكشف الغطاء عن محنة الثقافة فى مصر بأسلوب سهل وفكر واضح ورؤية واعية، وكان للرجل قصة معى فقد بلغنى من أحد الأصدقاء ـ وأظنه الراحل «د.عبد العظيم رمضان»ـ أن ابنة «رجاء النقاش» مستحقة للتعيين كمعيدة فى الجامعة، لكن يبدو أن محاولات أمنية مستترة تسعى لحجب الدرجة عنها بدعوى أن أباها يسارى قديم أو قل «مثقف مرموق»، فالثقافة تهمة فى كثير من العصور المصرية نتيجة خصام السلطة معها عبر التاريخ كله! وما إن علمت بذلك، وكنت سكرتير المعلومات للرئيس السابق «مبارك» فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى، وأثناء عرضى «البوسطة» اليومية حكيت للرئيس قصة ابنة «رجاء النقاش» فطلب منى ـ وهذه شهادة للتاريخ ـ أن أحمل تعليماته الفورية بإعطاء تلك الفتاة النابهة حقها.
وقال لى إنه لا يجب أن يضار ابن أو ابنة بسبب انتماء سياسى لأبيه أو أسرته، ثم أضاف الرئيس السابق أن «رجاء النقاش» مثقف كبير لا غبار عليه، وقد قمت بالفعل بتنفيذ التعليمات الرئاسية، وقد ظل الراحل «رجاء النقاش» يحكى هذه القصة ويحمل لى جميلاً لا يد لى فيه! ولقد خاض الأستاذ «رجاء النقاش» معارك فكرية ضارية ومواجهات ثقافية حادة، وظل قابضاً على مبادئه الثابتة ورؤاه الواضحة مع عفة فى اللسان وسلاسة فى البيان، ومازلت أتذكر شهوره الأخيرة وقد اعتلت صحته كثيراً،
وذات يوم من صيف عام 2007 وقف الأستاذ «مكرم محمد أحمد» نقيب الصحفيين آنذاك يطالبنا فى اجتماع للمجلس الأعلى للثقافة بترشيح «رجاء النقاش» لأعلى جائزة فى الدولة قبل أن يسبقنا الموت إليه! ويومها اكتشفنا أن لائحة المجلس تعطينا فقط الحق فى قبول الترشيحات من خارجه ولا تجيز لنا الترشيح من داخله! لكن الترشيح جاءه بعد ذلك مباشرة من أكثر من جهة علمية وثقافية، ونال الرجل ما يستحق من التكريم قبل لحظة الرحيل! وأتذكر عندما دعانى الراحل الأستاذ «أحمد حمروش»، رئيس اللجنة الآسيوية
- الأفريقية، لحضور تأبين «رجاء النقاش» وعدد من رموز اللجنة بحضور شقيقاته اللامعات فى ميدان الكتابة والأدب، يومها شعرنا وكأن «رجاء النقاش» بيننا بتواضعه الشديد وأدبه الجم، وثقافته الموسوعية، خصوصاً أن الرجل ترك وراءه عائلة موهوبة فى مجالات الأدب والصحافة والكتابة والنقد، إذ يبدو أن الميراث الثقافى والأخلاقى هو أغلى ما يملكه بيت «النقاش».. رحم الله ابناً باراً من أبناء مصر العظيمة، وكاتباً حراً، وناقداً جريئاً، وواحداً من «مؤرخى الفكر» القلائل فى حياتنا الحديثة، رحم الله «رجاء النقاش» وطيب ثراه، ولسوف تظل فى قلوبنا دوماً ذكراه.
جريدة المصري اليوم
20 مارس 2013
https://www.almasryalyoum.com/news/details/195276