لم ينل الرجل فى حياته كل ما يستحق، فالعدل ليس من خصائص عالمنا ولا من مظاهر الوجود فيه، فالغبى قد يدفع ثمن غبائه، والقبيحة تسدد فاتورة لا يد لها فيها، والذكى يحصد عائد هبة من الله، والجميلة تنال الإعجاب دون مجهود، كما أن الثرى قد يستمتع بجهد آبائه وأجداده دون معاناة، وحين أتطلع حولى إلى أقدار زملائى والأجيال السابقة علينا فإننى أكتشف أن التوزيع الإلهى يبدو لنا عبثياً فى ظاهره لا يخضع لقاعدة ندركها ولكنها فى النهاية حكمة الخالق!
أقول ذلك وأنا أكتب عن شخصية متميزة للسفير الراحل «د.أشرف غربال» ذلك الدبلوماسى المشهود له بالكفاءة المعترف به دولياً وإقليمياً ومحلياً، وهو ينتمى إلى مدرسة «الآباء المؤسسين» من تلاميذ «محمود فوزى» وجيله من الرواد الذين بدأوا مسيرة الدبلوماسية المصرية نتيجة لتصريح الاستقلال المبدئى فى 28 فبراير 1922 وأتذكر من تلاميذهم أسماء مثل «إسماعيل فهمى» و«عصمت عبد المجيد» و«أشرف غربال» وغيرهم، فذلك هو الجيل الذى تعلمنا منه ونقلنا الخبرة عنه، والدكتور «أشرف غربال» لمن لا يعرفه سليل عائلة عريقة فيها العلماء والأدباء والمؤرخون من مدينة «الإسكندرية» حيث تعود جذورها إلى أصولٍ «تونسية»، ولقد ظل «د.غربال» يمثل لجيلى نموذجاً مبهراً لعشرات السنين، ورغم أننى لم أتشرف بالعمل معه مباشرةً إلا أننى عرفته عن قرب فى ظل ظروف مختلفة منها عملى فى ثمانينيات القرن الماضى بمؤسسة الرئاسة ومنها أيضاً المودة الشخصية التى جمعتنى به،
ومازلت أتذكر يوم إقصائى من موقعى من تلك المؤسسة السيادية أننى كنت مدعواً للعشاء فى منزله بالدور الرابع والعشرين حيث يسكن فبالغ الرجل فى إكرامى والاحتفاء بى وتلك خصائص الرجال فى مثل هذه المواقف، وكانت أول مرة ألتقيه عندما جاءنا محاضراً بمعهد الدراسات الدبلوماسية فى ستينيات القرن الماضى حيث سألته يومها عن رأيه فى فكرة طرحها الكاتب الصحفى الكبير «محمد حسنين هيكل» فى مقاله الأسبوعى حينذاك حول أسلوبٍ لحل الصراع العربى - الإسرائيلى، ويومها قال لى السفير الدكتور «غربال» وابتسامة تكسو وجهه: «أعفنى من إجابة هذا السؤال، فلست بحاجة لخلاف مع الصحفى الكبير»، ومازلت أتذكر كيف انتهت مدة الرجل سفيراً فى «واشنطن» دون تمديد عند بلوغه سن الستين كالمعتاد لنظرائه فى المواقع الدولية المهمة رغم خبرته الواسعة بالعلاقات المصرية - الأمريكية بشهادة الأمريكيين أنفسهم خصوصاً أن الرجل كان قبل ذلك مشرفاً على قسم رعاية «المصالح المصرية» فى «واشنطن» فى أعقاب حرب يونيو 1967،
وعندما أراد الرئيس السابق «مبارك» اختيار وزيرٍ جديد للخارجية عند تعيين الراحل «كمال حسن على» رئيساً للوزراء ـ والذى كان وزيراً للخارجية قبل منصبه الجديد ـ كان اسم «أشرف غربال» يتصدر قائمة المرشحين ولكن كان هناك تحفظ من الرئيس السابق تجاهه لأن هناك من ادَّعى أن الدكتور «غربال» يمثل شركات عالمية كبرى وأنه يزاول نشاطاً تجارياً! ولم يكن ذلك صحيحاً ولا دقيقاً، ولكن الرجل استُبعد من ذلك الموقع واختار «مبارك» الدبلوماسى اللامع الدكتور «أحمد عصمت عبدالمجيد» ليكون نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للخارجية، ولقد ظللت أبحث فى أسباب الود المفقود بين الرئيس السابق «مبارك» والسفير الراحل «غربال» إلى أن كنت ذات يوم فى «أديس أبابا» أحضر لقاءً بين الرئيس السابق ورئيس «إثيوبيا» آنذاك «مانجستو» وكان حاضراً معنا «د.بطرس بطرس غالى» وزير الدولة للشؤون الخارجية حينذاك، ولقد ذكر الرئيس يومها بعض الأفكار والأرقام حول مياه النيل فتدخلت برقة وأدب شديدين لتعديل بعض ما ذكره الرئيس،
وعندما انتهى الاجتماع انتحى بى «د.بطرس بطرس غالى» جانباً بأستاذيته المعروفة وقال لى: لا تفعل ذلك أبداً مع الرئيس «مبارك»، لأنه لا يقبل النقد المباشر أو التصحيح العلنى، وأردف قائلاً إن الذى جعله يتحول عن الدكتور «أشرف غربال» ويمنع عنه ما يستحقه من مواقع هو أنه كان يفعل أحياناً مثلما فعلت أنت اليوم بين الرئيس «مبارك» والرئيس «مانجستو» ووعيت الدرس منذ ذلك اليوم وتعاطفت أكثر مع معاناة «د.أشرف غربال» وحرمانه من منصب «وزير الخارجية» والاكتفاء بعرض منصب «وزير السياحة» عليه وهو ما رفضه رغم أنه كان يمكن أن يكون مقدمةً للجلوس على المقعد الرفيع كوزير للخارجية مثلما حدث مع الدبلوماسى الراحل صاحب البصمة القوية فى تاريخ الدبلوماسية المصرية «إسماعيل فهمى»، ويجب أن يتذكر المصريون الدور الذى لعبه «د.أشرف غربال» كمتحدث رسمى أثناء حرب «أكتوبر المجيدة»، فلقد كان الرئيس الراحل «السادات» ينظر إليه بالتقدير الذى يستحقه، ولقد كان «د.غربال» هو وزوجته الفاضلة ـ التى تصارع المرض منذ سنوات ـ وابنهما وابنتهما نموذجاً مشرِّفاً للأسرة المصرية بشهادة الجميع، ولقد عانى الرجل فى سنواته الأخيرة من ظروف صحية صعبة ولكنه ظل حتى رحيله متقد الذهن متوهج الفكر حاد الذكاء واسع الاطلاع كالعهد به دائماً..
رحمه الله جزاء ما قدَّم للوطن العريق والدبلوماسية المصرية من خدمات جليلة وجهود مخلصة وتمثيلٍ مشرِّف.. نقول ذلك الآن و«مصر» تمر بواحدة من أصعب مراحل حياتها المعاصرة وأكثرها حساسية وأشدها تعقيداً!
جريدة المصري اليوم
27 فبراير 2013
https://www.almasryalyoum.com/news/details/194607