أسعى من تناول شخصيات مصرية وعربية وعالمية فى مختلف المجالات إلى أن أقدم نماذج باهرة عرفتها عن قرب، ورأيت أن أنقل لشبابنا وأجيالنا القادمة قيمة من نكتب عنهم، سواء بالسلب أو الإيجاب، فالقدوة الطيبة هى أغلى ما يحتاجه المصريون فى هذه الظروف الصعبة، وأنا لا أكتب إلا عمن عرفت مباشرة، لذلك فإن البعض يرى أننى أستثنى أشخاصاً لهم مكانتهم ولا أكتب عنهم، والسبب ببساطة هو أننى لم أتشرف بالتعرف على تلك الشخصيات والاقتراب منها، لأن ظروف الحياة لم تحقق لهم ولى ذلك، وها أنا أكتب اليوم عن شخصية مصرية رائعة تجسد المعنى الحقيقى لمفهوم «العصامية»، بمعناها الواضح وجوهرها الصلب ومعدنها الأصيل، إنه رجل بدأ فى منتصف ستينيات القرن الماضى بجنيهات قليلة، لكنه استطاع أن يخترق الحواجز وأن يصعد فى إقدامٍ وجرأة ليحتل مكانة مرموقة فى قطاع الأعمال الخاصة وبين رجال الصناعة، لم يتجه إلى «أوروبا» والغرب مثلما هو معتاد من أقرانه، لكنه اتجه ببصره إلى «الشرق الأقصى» وفتح قناة اتصال قوية مع «اليابان» المعروفة بالدقة فى اختيار شركائها والتنقيب بين من تختارهم وكلاء لها، ولعل أهم ما يميز «محمود العربى» فى صعوده أنه ظل مرتبطاً، منذ المربع الأول حتى الآن، بالقيم الأخلاقية الرفيعة والتدين الصحيح والالتزام بالإسلام الحنيف الذى نص على أن «الدين المعاملة»، وبقى الشطر الخيرى فى تجارته محل الاحترام والتوقير فما أكثر الأسر الجديدة التى ساعدها وذوى الحاجات ممن قدم لهم مساعدات فى صمت وهدوء، حتى أصبح نموذجاً يحتذى لدى الفنيين والإداريين لديه، إذ يستحيل أن يقبل أحد عماله مبدأ «البقشيش» عندما يأتى لإصلاح جهاز أو صيانة آخر، إنهم يقولون إننا قد أقسمنا أمام «الحاج الكبير» على ألا نمد أيدينا لأن الرجل- أكرمه الله- يعطينا ما يكفينا دون أن نطلب، وهو بذلك يقدم نموذجاً رفيعاً تحتاجه «مصر الانفلات والفوضى والجشع» فى هذه الأوقات العصيبة، ولقد جمعتنى بالرجل علاقة طيبة منذ سنوات طويلة،
وعندما جاء إلى «فيينا» كرئيس لاتحاد غرف التجارة المصرية ابتعد عن السفارة والسفير، وكنت أنا الذى سعيت إليه ورأيت من زهده ونقائه ما أثار إعجابى، بل وأدهشنى إلى أن تكررت لقاءاتنا فى جمعية مساعدة «مرضى السرطان» التى أعمل نائباً لرئيستها الراحلة «د.زينب السبكى»، رائدة «بنوك الدم» فى الطب المصرى الحديث، التى تلتها فى موقعها السيدة الفاضلة «سماح شلقانى»، قرينة المشير الراحل «أحمد إسماعيل»، وقد كرمت الدولة المصرية بعد الثورة «القائد الأعلى» و«رئيس الأركان» فى حرب أكتوبر الباسلة وأغفلت حق القائد العام للقوات المسلحة أثناءها!.. وأنا على يقين أنه سوف يتم تصحيح ذلك ذات يوم، فما أكثر المظاليم من قادة تلك الحرب الجسور، ولعلى أذكر منهم اللواء طيار «محمد نبيه المسيرى» الذى كان رئيساً لأركان حرب القوات الجوية فى تلك الحرب الظافرة، ثم جرى تجاهل دوره لاعتبارات شخصية!
أعود إلى العصامى العظيم «محمود العربى» الذى يوظف ثروته فى خدمة الفقراء وذوى الحاجة، وقد كان يحكى لنا فى مجلس إدارة تلك الجمعية- ذات الطابع الإنسانى والتى يدعمها هو شخصياً- عن قصة كفاحه والجنيهات القليلة التى بدأ بها وكيف أنه يمكن الوصول إلى الهدف مع التمسك الكامل بالمبادئ الدينية السمحة والأخلاق الإنسانية الكريمة، وقد بنى الرجل مسجداً رائعاً هو مسجد «الرحمن الرحيم»، وقد حضرت يوم افتتاحه، حيث كان خطيب الجمعة شيخ الأزهر الراحل «د. سيد طنطاوى» والذى لم يشر فى خطبته إلى من بنى المسجد وأنفق عليه وأوقف له، وربما كان ذلك بطلب من الحاج «محمود العربى» ذاته، لأنه يفعل الصالحات ابتغاء مرضاة الله وحده.
ولقد كان من المصادفات الحزينة أن يكون أول عزاءٍ فى ذلك المسجد الكبير هو لقرينة الحاج «محمود العربى» ورفيقة كفاحه، وأذكر يومها أنه ظل ممسكاً بيدى معظم الوقت، ونحن فى قاعة العزاء، فقد كانت لوعته شديدة وحزنه صامتاً، ومازال يدعونى أحياناً لتأدية صلاة الجمعة معه فى مسجده، وندخل القاعة الملحقة بالمسجد بعد الصلاة، حيث يلتف حوله طالبو المساعدة والمرضى وذوو الحاجات، ولا مانع من أن تمر علينا أطباق «الأرز باللبن» المعلبة بدعوة كريمة ممن أقام ذلك الصرح الإسلامى ليشمل الجميع بغير استثناء.
إن تدين الحاج «محمود العربى» هو من ذلك النوع الصافى والخالص والمباشر بين العبد وخالقه، دون انتماء سياسى أو ضجيج دينى، فالرجل قليل الكلام طاهر النفس، نقى القلب، محب للناس، عطوف على المعذبين فى الأرض، سعيد كل السعادة عندما يرفع المعاناة عن ذى الحاجة، ذلك هو الرجل العصامى، وذلك هو المسلم الصحيح، وذلك هو المصرى الأصيل.
جريدة المصري اليوم
13 فبراير 2013
https://www.almasryalyoum.com/news/details/194140