أكتب عنه وهو يدخل عامه الخامس والسبعين من سنوات عمره الحافلة بالإثارة الأكاديمية والتوهج الفكرى والنشاط السياسى، عندما رأيته فى آخر لقاء شعرت بندبات الزمن على وجهه وآثار السجن على صحته فقد بدأ يتوكأ على عصاه معتمدًا عليها أمام وقر السنين وخطوب الزمن، عرفته فى سبعينيات القرن الماضى عندما كان عائدًا من بعثته فى الولايات المتحدة الأمريكية، التى كان فيها زعيمًا طلابيًا معروفًا ليصبح أستاذًا مرموقًا «لعلم الاجتماع» فى الجامعة الأمريكية «بالقاهرة»، وعدت أنا بعده بقليل من دراستى فى «لندن»، وبدأت أتابع جهوده الأكاديمية ومقالاته السياسية، وتوطدت الصلة بينى وبينه، واختارنى ضمن كوكبة متميزة من المفكرين والمثقفين فى مجلس إدارة منتداه الشهير «ابن خلدون»، وقد كان اختياره اسم «المركز» فى حد ذاته تعبيرًا عن رؤية أستاذٍ فى علم الاجتماع لرائده فى الحضارة العربية الإسلامية،
وتأرجحت بعدها علاقته بمؤسسة الرئاسة قربًا وبعدًا فقد كان أستاذًا لقرينة الرئيس السابق، كما كان قريبًا أيضًا من الرئيس الراحل «أنور السادات»، ولكن الرئيس السابق «مبارك» والسيدة قرينته لم يستريحا إلى مواقفه وتصريحاته، خصوصًا ما كان متصلاً منها بمراقبة الانتخابات، والتأكيد على الشفافية ومنع التزوير، وقد عقد مجلس إدارة المركز جلسات مختلفة كانت بمثابة اجتماعات عصف ذهنى إلى أن دعا لمؤتمر عن «الأقليات فى الوطن العربى»، واختارنى لرئاسة جلسة «الأقباط» فيه، ولكن السلطات المصرية التى بدأت تترصده رفضت انعقاد ذلك المؤتمر مما دعاه لنقله إلى «قبرص» عندئذٍ بدا العداء سافرًا، والاستهداف واضحًا تجاه «سعد الدين إبراهيم».
وذات مساء من عام 2000 كنت أحضر حفل زفاف ابن المهندس «إبراهيم المعلم»، وجاءنى اتصال هاتفى من السيدة «بربرا إبراهيم»، قرينة الدكتور «سعد الدين»، تبلغنى بأنه قد جرى اعتقاله منذ قليل، وأنها لا تفهم دوافع ذلك الإجراء، وتريدنى باعتبارى مسؤولاً سابقًا فى مؤسسة الرئاسة أن أستطلع الأمر، فطرقت الأبواب متسائلاً، وكانت الإجابات غامضة وغير مريحة! ودعتنى فى ذات الأسبوع جمعية «رباط الفتح» فى «المغرب» للمشاركة فى الذكرى الأولى لرحيل الملك «الحسن الثانى» فسافرت وقرينتى إلى «المغرب»، وما إن وصلت إلى الفندق حتى جاءنى اتصال هاتفى من الرئاسة حيث تحدث إلى الرئيس السابق «مبارك» قائلاً: (لماذا كنت عضوًا فى مجلس إدارة مركز ابن خلدون؟)، وقلت له إنى عائد منذ شهور من «فيينا» سفيرًا، وقد توقفت صلتى بالمركز منذ بضع سنوات، ومع ذلك فإن المنتدى أكاديمى بحثى بالدرجة الأولى، وإن أرفع رموز المجتمع المصرى وخلاصة مثقفيه أعضاءٌ معنا فقال لى إن «سعد الدين إبراهيم» كان له خلاف كبير مع الدكتورة « سعاد الصباح» لولا تدخل الدكتور «عبدالعزيز حجازى»، رئيس الوزراء الأسبق، فى تسوية ذلك الخلاف ثم حمل على «سعد الدين إبراهيم»، ولم يترك لى فرصة المناقشة، ثم دخل «سعد الدين إبراهيم» للمحاكمة،
وجرى حبسه، ثم الإفراج عنه، ثم حبسه ثانيةً، وقامت الدنيا فى العالم الغربى، ولم تقعد بسبب التنكيل بمفكر مصرى تجرى محاسبته على آرائه ومواقفه، وتشهد أجهزة الإعلام المختلفة فى العهد السابق أنه ما ذكر اسمه أمامى إلا وأشدت بقامته العلمية ومكانته الفكرية عن قناعة بقيمة ذلك المفكر حتى عندما اختلف معى فى أعقاب زيارة لى لـ«واشنطن»، وحوارى مع محامية مصرية بإحدى الكنائس القبطية فى ضواحى «واشنطن»، فإن ردى كان بمقال بدأته بالإشادة بقيمته وتأثيره الفكرى باعتباره واحدًا من أضلاع مثلث هو و«على الدين هلال»، وكان رأسه المفكر المصرى «سيد ياسين».
وذات مساء منذ سنوات وجدت الرئيس السابق يتصل بى تليفونيًا، ويتحدث عن مواقف «واشنطن» المعادية له، وقال لى يومها إن الرئيس «جورج دبليو بوش» فى رسالته الأخيرة إليه خاطبه قائلاً (عزيزى السيد الرئيس) بدلاً من العبارة المعتادة فى خطاباته السابقة، التى كان يستهلها (عزيزى حسني)، وأضاف الرئيس السابق أن جزءًا كبيرًا من غضب الإدارة الأمريكية مرهون بقضية «سعد الدين إبراهيم»، والرغبة فى الإفراج عنه ثم تطرق إلى «لوبي» فى «الكونجرس» ممن يثيرون «مسألة الأقباط»، وأشار فى ذلك إلى اسم النائب الأمريكى «وولف» على ما أتذكر! ثم جرى الإفراج عن «سعد الدين إبراهيم» ليخرج من وراء القضبان إلى ساحة المجتمع لامعًا كما كان، بل متوهجًا أكثر ولكن حالته الصحية لم تعد إلى طبيعتها، ولقد تعددت لقاءاتنا التى كان آخرها فى برنامج تليفزيونى تحاورنا فيه حول «مستقبل مصر بعد الثورة»، وما ينتظرها من تحديات.. إننى أكتب عن نموذج مصرى اختلف الناس حول آرائه، ولكنهم اتفقوا على قيمته الفكرية وقامته الثقافية وإسهاماته الأكاديمية.
جريدة المصري اليوم
30 يناير 2013
https://www.almasryalyoum.com/news/details/193713